الفنان محمد فوزي.. حياة مليئة بالحرمان واستثمارات ناجحة

الفنان محمد فوزي.. حياة مليئة بالحرمان واستثمارات ناجحة

سافر الفنان محمد فوزي إلى القاهرة دون موافقة الأب ورضاه، بكل ما يترتب على ذلك من توقف عن دعم مادي، واصطدم الشاب الصغير بالغربة والفقر معا، واستمرت المعاناة الرهيبة حتى اتيحت له الفرصة ليعمل مطرباً في فرقة بديعة مصابني، مدرسة المسرح الاستعراضي في تلك المرحلة، وهي الفرقة التي احتضنت عشرات الأسماء البارزة في تاريخ الفن المصري. وتعاقد فوزي بأجر يصل إلى سبع جنيهات شهرياً، وهو مبلغ كبير بالنظر إلى مستوى الأسعار في الثلاثينات من القرن العشرين، لكن الفنان مرهف المشاعر استقال سريعا تضامنا مع الراقصة لولا، التي كان يحبها واحتج على فصلها من الفرقة. وخرجا معا من فرقة بديعه ليشكلا ثنائياً يتجول في أنحاء مصر، ثم عاد فوزي ليستقر في فرقة فاطمة رشدي المسرحية، وكانت عملاقة المسرح المصري وزوجها المخرج الكبير عزيز عيد، هما أول من اكتشف موهبة محمد فوزي في التلحين.

 

الفنان محمد فوزي

 

عمل عقب تخرجه من معهد الموسيقى العربية بفرقة فاطمة رشدي المسرحية، ثم ألحقته الفنانة الكبيرة بالفرقة القومية المصرية، ولم تكن تجربته المسرحية ناجحة مما يبرر ويفسر انصرافه عن خوض التجربة. وبالرغم من ذلك قادته تلك التجربة إلى المحطة الأهم والأخطر في حياته وهي السينما. وكانت بدايته حينما أعجب به يوسف بك وهبي واسند إليه دور ثانوي في فيلم “سيف الجلاد”.

وتحول بعد هذه التجربة السينمائية الأولى من دور الكومبارس إلى البطولة الثانية في فيلم “قبلة في لبنان”، ثم بدأت رحلته العريضة مع السينما بطلا منفرداً ذا شعبية طاغية، قدم أربعة وثلاثين فيلماً غير هذين الفيلمين اللذين بدأ بهما وهم مجد ودموع وأصحاب السعادة وعدو المرأة عام 1946، والعقل في إجازة وقبلني يا أبي وعروسة البحر وصباح الخير عام 1947، وصاحبة العمارة وحب وجنون ونرجس والروح والجسد وبنت حظ عام 1948، والمجنونة والمرأة والشيطان وفاطمة وماريكا وراشيل وصاحبة الملاليم عام 1949، وآه من الرجالة وبنت باريز والزوجة السابعة والآنسة ماما وغرام راقصة عام 1950، والحب في خطر ونهاية قصة ورد الغرام عام 1951، ومن أين لك هذا؟ ويا حلاوة الحب عام 1952، وفاعل خير وابن للإيجار عام 1953، وبنات حواء ودايماً معاك عام 1954، ومعجزة السماء عام 1956، وكل دقة في قلبي وليلى بنت الشاطيء عام 1959.

اتخذ الفنان محمد فوزي لنفسه منهجاً يتميز به عن عمالقة العصر في الغناء والتلحين، ممن سبقوه وعاصروه، فهو ليس تقليدياً محافظاً، بل إنه مجدد مغامر عصري يراود التعبير عن إيقاع واقع متغير تتبدل فيه كافة المفاهيم، في الفن والحياة معاً. وفي هذا السياق، يمكن أن نستوعب ريادته المتمثلة في أغنية “كلمني وطمني” التي تضمنها فيلم معجزة السماء، وهي الاغنية التي اكتفى فيها فوزي بالكورال دون مصاحبة فرقة موسيقية. واتبع فوزي في موسيقاه ما يسمى بكوميديا اللحن كما يقول المايسترو سليم سحاب، فكان أهم ما يميزها خفة الدم والمرح البريء كما في دويتو “شحات الغرام” الذي غناه مع الراحلة ليلى مراد. ولا شك أن محمد فوزي هو رائد أغنية الطفل في عالم الموسيقى العربية، ففي سنة 1956 قدم أغنيته الشهيرة “ذهب الليل طلع الفجر”، كما لحن للأطفال أوبريت “صحصح لما ينجح” في مسرح العرائس، وتقول عنه الخبيرة الرومانية المشرفة على التنفيذ انها من أجمل الموسيقى المعبرة التي سمعتها في حياتها، ووضح فوزي أنه كان يسعى إلى تعويد الأطفال على الأشياء الحميدة بلون محبب.

أبدع محمد فوزي في مجال الأغنية الدينية وتميز عن كل معاصريه وذلك نتيجة لنشأته في أجواء دينية، واندفع بحاسته التجديدية ذات المذاق الشعبي ليقدم عالم “المسحراتي” في شهر رمضان المبارك من خلال أغنيته الفريدة “يا عباد الله وحدوا الله”، وكذلك الأغنية البديعة التي كتبها حسين السيد “رمضان أبو تلاتين ليلة”. ويمتزج الغناء العذب بالابتهالات في “لبيك لا شريك لك لبيك”، وعن الحج غنى محمد فوزي ولحن “يا اللي زرت البيت.. وفي زمزم اتوضيت.. وعلى النبي صليت”، وفضلا عن ذلك كله كان أول من سجل القرآن الكريم على اسطوانات. كما قدم فوزي العديد من الأغنيات الوطنية التي يزيد عددها عن العشرين، ومن أشهر وأمتع هذه الأغاني “بلدي أحببتك يا بلدي” و”بحبها وأعزها” و”أنا عائد” و”رسالة إلى جندي” و”ثورة الأحرار” و”ثورة مصر فوق الجميع” و”يا بلادي” و”ألفين ما شاء الله على الوحدة دية”، وكانت اخر اغنياته قبل الرحيل عن مصر التي أحبها وأخلص في حبها “أم البلاد”. وتواصل فوزي مع أشهر مطربي ومطربات عصره، وقدم لهم عشرات من الألحان الناضجة الناجحة التي أسهمت في صناعة شهرتهم، ولكن الحلم الأكبر الذي لم يحققه الفنان الرائد هو التلحين للسيدة أم كلثوم التي يمثل الاقتران باسمها فخراً يباهي به كل مؤلف وملحن على مدى الأزمان.

أسس محمد فوزي بعد حياة مليئة بالحرمان والشقاء شركته الخاصة للإنتاج السينمائي في عام 1946، ومن خلال شركته هذه حقق تراكماً مادياً يتوافق مع موهبته العريضة من ناحية ومع جهده ودأبه من ناحية أخرى. وأراد فوزي أن يخوض تجربة شاقة وممتعه، وأن يكلل نجاحه بمشروع وطني متميز، يساعد من خلاله الفن والفنانين، فأنشأ شركة “مصر فون” لإنتاج الاسطوانات، بكل ثروته التي بلغت ثلاثمائة ألف جنيه، وهو مبلغ ضخم بمقاييس منتصف الخمسينات من القرن العشرين، وكان يسعى إلى ضرب الاحتكار الأجنبي لسلعة حيوية وهي الأسطوانات الموسيقية والإنتاج الغنائي، فكم كانت خزينة الدولة تتحمل من أعباء في سبيل ذلك. لقد كان المشروع عملاقاً، وافتتحه وزير الصناعة الدكتور عزيز صدقي في الثلاثين من يوليو 1958، وقد أعجب بالفكرة الإيجابية البناءة التي توفر العملة الصعبة.

الفنان محمد فوزي

 

نشطت مصر فون في خدمة الفن الغنائي المصري، وكانت البداية مع أم كلثوم ونجاة الصغيرة، ثم تزايد النشاط ليشمل آخرين ليتاح الاستماع إلى أغانيهم الحديثة في اسطوانات فاخرة بأسعار رخيصة مقارنة بما كان. وإذا كان المواطن العادي قد استفاد من مشروع محمد فوزي، فإن الفنانين أنفسهم كانوا أكثر إفادة، حيث كان الفنان يحصل على نسبة من إيراد بيع الأسطوانات التي تنتجها الشركة، وكانت أول من استفاد من هذا النظام هي السيدة أم كلثوم. وكانت الشركة هي الأولى من نوعها في الشرق الأوسط، فقد امتلكت مصنعاً حديثاً لصناعة الأسطوانات واستوديوهات في مدينتي القاهرة والاسكندرية، كما عملت على توفير خبراء متخصصين للوقوف على أسرار هذه الصناعة، ومن ثم سجلت اسطوانات أغاني المطربين والمطربات وطبعت في مصر بدلا من اليونان وفرنسا وإيطاليا.

الفنان محمد فوزي