من الأرصفة والمقاهي إلى رابع بورصة في العالم.. حكاية بورصة القاهرة
اقترح المسيو موريس قطاوي خلال احد الاجتماعات بين تجار وسماسرة القاهرة على مقهى (نيوبار) بضرورة انشاء بورصة خاصة بالقاهرة على غرار ما تم في الاسكندرية، فهي تعتبر أساس مجتمع الأعمال. وأشار قطاوي إلى أن عدد الشركات ذات المسؤولية المحدودة وصل إلى 79 برأس مال يقدر بنحو 29 مليون جنيه. ولم تعد حركة ووضع المدينة تسمح بإجراء الاتفاقات على أرصفة القاهرة أو داخل المقاهي والفنادق. وتم انتخاب مجلس الادارة واختيار المسيو بوتيني سكرتير للمجلس بصفة مؤقتة. وتمثل الاعضاء المؤسسين في ممثلين عن البنوك الرئيسية الموجودة في مصر وهم بنك الكريدي ليونيه والبنك العثماني والبنك الوطني وبنك مصر وبنك الأنجلو بالاضافة إلى أدولف قطاوي ومسيو مورتيرا كممثلين عن السلع والبضائع وأسواق الحبوب. وتم اختيار المسيو قطاوي بك رئيساً للمجلس.
وعقدت لجنة برئاسة قطاوي بك يوم الخميس الموافق 21 مايو 1903 لاختيار مقر للبورصة واستقر الأمر على المبنى القديم للبنك العثمانى ( وهو الآن مبنى جروبى- فرع عدلى) الكائن بشارع المغربى كمقر رسمي مؤقت للشركة المصرية للأعمال المصرفية والبورصة والتي يطلق عليها بورصة القاهرة الخديوية. واستأجرت الشركة المبنى لست سنوات غير قابله للتجديد بايجار سنوي قدره 400 جنيه، وذلك بدافع من التطلع والطموح.
وبدأت مسابقة دولية في تلك الاثناء لتصميم مبنى للبورصة بوسط الحي الاوروبي بميدان الاسماعيلية بالقرب من البنك الأهلي المصري (البنك المركزي حاليا). وحصل المعماري الفرنسي راؤول براندون في ابريل 1907م على أفضل تصميم، وهو الذي صمم فرع عمر أفندي بشارع عبد العزيز.
ولم يكن هناك توقيت أفضل من ذلك واعتقد الجميع أن الوقت مناسب، فكان المروجين للبورصة يتمتعون بجرأة دفعتهم إلى النجاح والنمو. وصنفت بورصتي القاهرة والاسكندرية ضمن أفضل خمسة بورصات في العالم. فكان الاقتصاد المصري مرتفع دائما، ووصل عدد شركات التداول في بورصة القاهرة فقط إلى 228 برأس مال قيمته 91 مليون جنيه. وبلغ عدد السماسرة والوسطاء المتابعين لحركة الأسهم حوالي ثلاثة وسبعين. وقد شهد المقر المتواضع بشارع المغربي نجاحاً وفائدة كبيرة. فقد كان هذا الوقت مفعم بالحيوية والنشاط. ولكن كانت هذه الحيوية مثل حركة البندول، فقد اختفت تلك الحالة بين عشية وضحاها. فاتيح المجال للمضاربة عالية المخاطر، وانتهى الأمر كما بدأ كطفرة عقارية في مصر، وهو ما يعرف في سجلات تاريخ المضاربة بالهبوط عام 1907م.
ويقول بعض المؤرخين أن هبوط عام 1907 بدأ في الاسكندرية في يوليو مع اخفاق بنك الخصم والتوفير كاسادى سكونتو. وقد ضرب هذا الانهيار اليابان ثم ألمانيا ثم تشيلي، وامتدت الأزمة بحلول شهر أكتوبر إلى أوروبا ومن ثم إلى الولايات المتحدة. وتوقفت العديد من البنوك في مصر وانخفضت أسعار الأسهم، وعين السيد ألفريد نعمان -الذي كان يعمل كوسيط وأصبح بلا عمل- كمصفي رئيسي للشركة المصرية للأعمال المصرفية والبورصة كشركة ذات مسئولية محدودة.
وكلفت مؤسسة وكلاء الصرافة والعملة شركة القاهرة الخاصة بإدوارد ماتاسيك وموريس قطاوي بالتعاون مع إرنست جاسبر لتصميم وبناء مبنى للبورصة، وذلك بعد انقضاء ثمانية شهور من إعلان جائزة براندون لبناء مبنى البورصة الذي لم يكتب له الوجود آنذاك. وتم تصميم المبنى بعلامات تجارية لتماثيل هيرميس والجبس المزخرف، وظهر المبنى في شكل جميل وأفضل من كل ما يحيط به. وأصبحت القاهرة تمتلك مقر للتداول الحقيقي ومعرض حيوي يمكن الجمهور من متابعة حركة تداول الأسهم. وقد شغل هذا المبنى الموجود أمام السفارة الفرنسية العديد من الجهات على مر السنين منها بنك لويدز والغرفة التجارية البريطانية والبنك الأهلي المصري البنك الوطني للتنمية حالياً. وبدأ التداول تقريباً في 30 ابريل 1909 في شارع البورصة الجديد وذلك عندما توفى رجل الصناعة رافائيل سوارس وتبنت مصر سياسته في عدم التدخل والحرية الاقتصادية. وأغلقت البورصة أبوابها بقية اليوم اعترافا بجهوده التي بذلها لإنشائها. وقد أدت وفاته المفاجئة إلى عدم حضوره فرض لوائح البورصة. وتم اطلاق شركة مساهمة لمبنى بورصة القاهرة في 7 يونيو 1927م بمجموعة أسهم عددها 4 الاف قيمة كل سهم 5 جنيه مصري. وكان الغرض من ذلك شراء قطعة أرض وبناء مبنى جديد للبورصة.
وتوفي موريس قطاوي عام 1924م صاحب فكرة انشاء بورصة القاهرة -الذي حصل على رتبة الباشاوية- ولم يكن يعرف أنه سيتم نقل البورصة بعد رحيله بأربع سنوات على جزء بطول الطريق من البنك الأهلي المصري إلى ميدان سليمان باشا (طلعت حرب الآن). وتخليدا لجهوده العظيمة اطلق اسمه على احد الشارعين الجانبيين المحيطان بالبورصة. وقد ظل الأمر كذلك حتى عام 1928م وهو العام السابق لحادث وول ستريتWall Street ، حيث تم نقل البورصة إلى مقرها الحالي في شارع الشريفين. ويعتبر المهندس المعماري الفرنسي جورج بارك George Parcq هو من قام بتصميم هذا المبنى الجديد بصفوف أعمدته المتعددة المبنية على الطراز الاغريقي، كما أنه كان المسؤول عن تصميم الكثير من مباني القاهرة خلال فترة ما بين الحربين العالميتين بما في ذلك متجر صيدناوي في ميدان الخازندار. وقد شهد الموقع الذي أنشأ فيه صيدناوي أول اجتماع للتجار المضاربين قبل تكوين أول بورصة للقاهرة وربما يكون ذلك من قبيل المصادفه.