طلعت حرب.. أسرار من مشوار حياته واستثماراته
عين طلعت حرب عند مغادرته الدائرة السنية مديراً تنفيذياً لشركة كوم أمبو، ونظراً لتملكه لأراض وشغله لمنصب في شركة هامة لاستصلاح الأراضي، فقد أصبح بحوزته المركز والثروة اللازمين لاعتباره واحدا ًمن أعضاء الطبقة العليا في المجتمع المصري. وساعده هذا المنصب على الاتصال بعدد من أقوى العائلات اليهودية داخل الطبقة العليا في مصر مثل عائلات سواريس والقطاوي وهراري ورولو والموسيري. وظل قريباً بشدة من أعضاء الطبقة العليا من اليهود في مصر، فقد اختار يوسف القطاوي باشا رئيس الجمعية اليهودية نائباً لرئيس لبنك مصر في 1920. وتعلم طلعت حرب الكثير من العائلات اليهودية التي عمل معها حول رأس المال الدولي، حيث كان عدد من أعضاء العديد من هذه العائلات يقيم في أوروبا والولايات المتحدة وحتى جنوب آسيا والشرق الأقصى وكانوا يساعدون بعضهم فيما يتعلق بالتعاملات المالية. وتوسعت علاقاته بشكل كبير حينما أصبح المدير المسئول في شركة أراضي مصر التي كانت تتركز أعمالها في منطقة الدلتا. وكانت ممتلكات الشركة الكبيرة في محافظة الغربية قد مكنت طلعت حرب من اقامة علاقات مع العديد من الأعيان المعروفة هناك. كما ساعده عمله هناك على زيادة ثروته بشرائه أراضي من الشركة فيها، حيث اشترى 301 فدان في الفترة من 1920 و1939 في قرى كفر الجنينه وكفر الخوازم وميت العرقي بمركز طلخا بالغربية.
وأسهم العمل مع العائلات عالمية الانتشار من البرجوازية اليهودية المصرية في دفع طلعت حرب للتوصل لنتيجة مفادها أن على المصريين مراكمة رؤوس الأموال إذا ما رغبوا في مقاومة رأس المال الأجنبي. وخلافاً لمعظم قادة الحركة الوطنية المصرية في تلك الفترة، تمكن طلعت حرب من الوقوف على العلاقات الأكثر أهمية وهي إحكام السيطرة على القوى الاقتصادية. وبذلك كان طلعت حرب واعيا لحالة اليقظة والحرص الشديدين التي أولاها البريطانيين لتوسع نشاط رأس الألماني في السوق المصرية. ولذلك قام بزيارة ألمانيا برفقة يوسف القطاوي باشا قبل قيام الحرب العالمية الأولى، وقدما تقريراً بعنوان “التجارة والصناعة الألمانية” إلى لجنة التجارة والصناعة في 1916م، وسلط طلعت حرب والقطاوي الضوء على مفهوم البنك الشامل. ونقلوا جزءاً من المادة الثانية من القرار المنشئ للبنك الوطني الألماني والتي تنص على أن “غرض هذه الشركة هو القيام بأي مشروع مهما كانت طبيعته، سواء أكان عمليات بنكية أو إقراض أو عمليات مالية أو إصدار سندات أو مشروعات صناعية.
وقدم طلعت حرب اقتراحه المفصل الأول لبنك وطني في 1910م خلال المؤتمر الوطني المصري، وأبدى وطنيون دعما تجاه فكرة هذا البنك بتقديم أراضيهم كضمان لرأس المال المستثمر. ومن ثم قام بالتنسيق مع عمر لطفي والأمير حسين كامل وألفريد عيد (رأسمالي بلجيكي) وتجار القاهرة البارزين وعدد من ملاك الأراضي ذوي الأصول المحلية بتأسيس شركة التعاون المالي والتجارة بمصر في القاهرة. وكانت هذه الشركة بمثابة نموذج مصغر للبنك. وأعلن طلعت حرب عن تأسيس بنك مصر في إبريل 1920 -في ذكرى مرور عام على اندلاع ثورة 1919 التي كانت بمثابة الروح والمحرك لتأسيس البنك والدعم الوطني له- برأس مال مشترك قدره ثمانين ألف جنيه مصري وما حققه من نمو خلال العقدين التالين وتحوله لشركة قابضة ضخمة ذات رأس مال مشترك قدره أربعة ملايين جنيه مصري. وقد أدى الدعم الذي قدمه الجماعات الطلابية والبرجوازية الزراعية للبنك إلى مطالبة التجار من كافة أرجاء القطر بالمطالبة بإحلال بنك مصر محل البنك الأهلي المصري. وكان طلعت حرب يهدف من وراء عدم وضع هوية حزبية للبنك عدم تدخل بريطانيا في شئونه. وهذا ما دفع البنك للحصول على تمثيل داخل المجلس الاقتصادي المصري والمجلس التعاوني الأعلى والذين تشكلا عامي 1923 و1926 لتقديم النصيحة للحكومة فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية. حتى أصبح البنك يعتمد بصورة أكبر على الدولة وعلى الهياكل التقليدية لتحقيق مصالحه.
ويعكس التوسع السريع لبنك مصر وشركاته خلال العشرينات من القرن العشرين العلاقات القوية لطلعت حرب ومؤسسي البنك بالأعضاء البارزين من طبقتي التجار وملاك الأراضي. فتم افتتاح فرعاً بالاسكندرية عام 1921، وشهد العام 1922افتتاح فروع في الموسكي ومنطقة السوق التقليدية بالقاهرة وروض الفرج وأثر النبي وكذلك في محافظة المنصورة، وتم افتتاح اهم مكاتبه في الاقاليم في مدينة المنيا عام 1923 مع مكتب فرعي في مغاغه، وافتتاح فرعين للبنك في طنطا والمحلة الكبرى بمحافظة الغربية في العام التالي. وبحلول عام 1930كان يتم تمثيل البنك من خلال عشرة أفرع رئيسية وعشرة مكاتب فرعية. وقام طلعت حرب في إطار التوسع في تأسيس شركات بنك مصر بإنشاء مسرح الأزبكية ايماناً منه بدور السينما وخطورة دورها في الربط بين رأس المال والحضارة. فيقول عن التوسع في تأسيس شركات المجموعة أن الأمر لم يأت اعتباطاً وإنما في حلقات متصلة:
“فالمطبعة والمكتبة والشركة المساهمة لصنع الورق حلقة، وللقطن حلقة تتمثل في الحلج والنقل والتصدير والتأمين والغزل والنسج، ومن النقل تكونت حلقة بين النقل في النهر والبحر والجو كما تصل بها مسألة السياحة ثم الحلقة التي تربط هذه الحلقات جميعها وهي حلقة السينما والدعاية ثم البيع والتسويق.” واستمر البنك في توسعاته ومشروعاته. وكانت شركات مجموعة مصر في الفترة من 1920 إلى 1940 هي بنك مصر، وشركة مصر للطباعة، وشركة مصر للورق، وشركة مصر للحلج، وشركة مصر للنقل، وستوديو مصر، وشركة مصر للغزل والنسيج، وشركة مصر للمصايد، وشركة مصر لنسيج الحرير، ومصر للكتان، وبنك مصر-سوريا-لبنان، وشركة لتصدير القطن، وشركة مصر للطيران، وشركة مصر للمبيعات، وشركة مصر للتأمين، وشركة مصر للملاحة البحرية، وشركة مصر للجلود، ومصر للشحن، وشركة مصر للغزل الدقيق والمنسوجات، ومصر للتنمية العقارية، وبييدا دايرز، وشركة مصر للمناجم والمحاجر، وشركة مصر لتكرير الزيت، وشركة مصر للتبغ، وشركة مصر للمستحضرات الدوائية.
وقرر طلعت حرب توسيع مجموعة مصر في الدول المجاورة وافتتاح أول فرع للبنك بالشام لما كانت لمصر علاقات اقتصادية وثيقة بفلسطين وسوريا ولبنان، وتم افتتاح بنك مصر-سوريا-لبنان برأس مال 250,000 ليرة لبنانية. كما عمل من خلال بنك مصر على تحسين شركة مصر للملاحة لبحرية حتى تقوم بمساعدة الحجاج المصريين وتحسين أحوال سفر الحجيج من الدول العربية المجاورة بالاضافة إلى بناء فنادق جديدة في السويس وجدة ومكة وتنقية آبار المياه العذبة في مكة وتعبيد الطرق بين جدة ومكة وتأسيس نظام تلغراف وبالتالي توطيد العلاقات بين هذه الدول ومصر. الأمر الذي أدى بالنظام السعودي إلى الثناء على طلعت حرب وبنك مصر في مناسبات شتى. وقام وفدان تجاريان من مصر بزيارة السودان في فبراير وابريل 1935 وتم الاتفاق على وضع حجر الأساس لمرفأ لشركة مصر للملاحة في بورسودان. ووافق بنك مصر على تأسيس أول شركة مشتركة مع رأس المال الأجنبي لتأسيس شركة بمقدورها تدريب الطيارين المصريين وإنشاء المطارات وسجلت، شركة مصر للطيران الجديدة رسمياً كشركة مساهمة مصرية في مايو 1932. وقامت شركة ستةديو مصر بدورها أيضا في انتاج افلام عن انشطة البنك وكان أحد أهم هذه الأفلام الفيلم المنتج عام 1935 حول الحج.
وعلق طلعت حرب آنذاك على نجاح مجموعة مصر بقوله:
“لقد وفقنا أن جعل لنا في هذه الفترة القصيرة-خمسة عشر عاماً- أن ركز البنك في السهل والجبل وفي الشرق والغرب وعلى الماء ومتن الهواء وعلم البلاد.. يخفق تحت الشمس باسم بنك مصر وشركات بنك مصر.. بل باسم مصر كلها”