هبة معوض تكتب.. لماذا نسيء فهم نيتشه؟
لماذا نسيء فهم نيتشه؟
قرأت من فترة بعض العبارات للفيلسوف الوجودي فريدريك نيتشه، برزت خلالهم فلسفته وأفكاره الغريبة عن غيره من الفلاسفة الوجوديين الآخرين.
لكن أكثر ما جذب انتباهي كانت عبارة يقول فيها “إن تعلم الإنسان للقراءة لا يفسد الكتابة فقط بل يفسد الفكر أيضا على مر الزمان”.
وقد جاءت كأكثر أقواله عنصرية بالنسبة لي، ومن ثم اتجهت لقراءاة نيتشه وفلسفته بشكل أعمق، من خلال مؤلفاته وما كتبه الآخرون عنه.
نفور فتعاطف..
لكن ما أثار حيرتي أكثر هو تحول نظرة النفور والإزدراء من قبلي تجاهه إلى تعاطف وشفقة، وحتى الآن لم أستطع أن أحدد سبب ذلك.
لكن إذا ربطنا بشكل نقدي موضوعي بين نشأته وحياته وبين اتجاهات الفكرية، قد نفسر سبب فلسفته وغموضه، ونجد الترابط العضوي بينهم
العقل والتطور..
كان العالم أجمع منذ بداية الخليقة وحتى القرن الثامن عشر يعرف ويتسم بأنه عصر العقل، موقنين من ثنائية العالم والبعث من جديد.
لكن جاء القرن التاسع عشر ليكون النقطة الفاصلة والحاسمة بين العصور من ناحية الفكر، ففي بداية ذلك القرن ظهرت نظرية التطور.
نظرية التطور..
وهي النظرية التي انطوت على مضمون خلقي خطير، لترى أن البشر مثلهم مثل سائر الكائنات الحية الأخرى.
أي أنهم في صراع من أجل الحياة، ذلك الصراع الذي أدى إلى التحسين المستمر للكائنات الحية من خلال “بقاء الأصلح”.
والمتأمل لتلك النظرية بمفهومها سيجد أن نتائجها أثرت كثيرا في مجال الأخلاق لدى نيتشه، فمن خلالها تكون لديه أن الخير والشر مرادفين للقوة والضعف.
ميلاد فيلسوف..
بعد ذلك وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ولد نيتشه لتبدأ رحلة تحوله الفكري من ذلك القس البروتسانتي إلى الفيلسوف الوجودي.
فبالرغم من نشأته في أسرة مسيحية بروتستانتيه متدينه إلا أن طبيعة عصره طغت عليه، وكثرة معرفته واطلاعه ساعداه.
فقد قارن نيتشه أحداث عصره بما سار عليه الفلاسفة السابقين، ليرفض أهمهم كروسو ومارتن لوثر وبولس.
ويتأثر بميكافيلي وشوبنهاور وفاجنر وبسكال، لكن الأهم من ذلك هو نظرته لسقراط أو نظرته السقراطية.
السقراطية..
نيتشه لم يعتبر يوما أن سقراط شخص حقيقي، بل اعتبره ظاهرة فلسفية وأنه أكثر ظواهر الماضي إثارة للجدل.
وهذا ما أكده في موت التراجيديا، عندما قال إن السقراطية تشير إلى دوافع ونزعات معينة سميت بعد سقراط لأنه كان أعظم تجسيد لها.
تحول حقيقي..
لكن أكثر ما يثير في فلسفته هو اعتقاده بأن الفلاسفة القدامى لم يعرفن قيمة العقل أو يعطوه حقه من العظمة.
لذلك فهو يرى أن العقلانية أو تجسيد العقل هو أعظم تجل للقوة.
وقد ظهر ذلك بشكل واقعي في أفكاره في كتاباته مثل أفول الأصنام وميلاد التراجيديا، وخاصة كتابه، هكذا تكلم زرادشت.
فمن خلال ذلك الكتاب أو المؤلف على وجه التحديد رأى أن إرادة القوة هي الفكرة الوحيدة التي يجب أن تحكم العالم.
ومن هنا يخلص إلى نتيجة مفاداها أن ثنائية العالم أو بمعنى آخر وجود حياة أخرى نبعث بها ما هو إلا شكل من أشكال العبث.
إله وصاحب رسالة..
لذلك فقد رفض تماما فكرة التقديس التي تقوم عليها المسيحية، أو أي من الديانات الأخرى.
ورغم رفضه فكرة التقديس ووجود إله إلا أنه كان ينظر لنفسه على أنه إله وصاحب رسالة، جاء من أجل أدائها.
تسلسل منطقي..
ومن ثم إذا تأملنا كتابات نيتشه ووضعنا فلسفته في تسلسل زمني مرتب وواضح سنجد أن نيتشه لم يكتب بشكل صريح كتاب يلخص فكرته.
وبالتالي فقد جاءت فلسفته غامضة عنصرية تطبع عليها ملامح شخصيته النرجسية، ومن ثم يبقى لدينا التساؤل حول سبب التعاطف معه.
في الغالب يبقى سبب التعاطف معه هو ما آل إليه في نهاية حياته من جنون عقلي ووحدة وتناقض فكري أو تشتت بصيرته.
لماذا نسيء فهم نيتشه؟
أعتقد أن ذلك السؤال هو الأهم، فالمتأمل المتأني في كتابات نيتشه سيدرك حقيقتين ثابتتين حوله.
الأولى هو أن مؤلفات نيتشه يجب أن تقرأ في تسلسل منطقي، لأن لأن هناك وحدة عضوية أو وحدة موضوع بين مؤلفاته.
لذلك يجب أن تكون قراءتها مرتبة حسب صدورها، من الأقدم للأحدث.
وذلك لأن نيتشه في حياته الوجودية مر بعدة مراحل مختلفة، أو بالتحديد ثلاث مراحل، بدءا بالرومانسية فالتنويرية ثم النضج.
سوء فهم..
أما الحقيقة الثانية تتمثل في أن نيتشه تعمد الغموض في كتاباته لكي يُكون لنفسه تلامذة ورفاق حقيقيون.
وليس قراء مزيفين كل همهم قراءة المؤلف بشكل سريع ليضمه ضمن قائمة قراءاته.
فمنذ القدم وقد تنبأ بالقراء المتعجلين.
لذلك فقد جاءت كل كتبه في شكل حكم يرنو بها إلى أصدقائه وتلامذته، لذلك خلق لنفسه ولرفاقه عالم وهمي.
إضافة لذلك فسوء الفهم قد يكون ناتج أيضا عن فصاحته وبلاغة لسانة وفصاحة عقله.
أو قد يكون أيضا نتيجة استخدامه لأكثر من لغة في نفس النص.