ابتهالات في حضرة الموت

ابتهالات في حضرة الموت

أمام مشرحة زينهم، يقف ” سيد” يبحث عن اسمه في سجلات ضحايا وقتلى حوادث الطرق.

فيخبره الموظف المختص أن اسمه لم يزل قيد الإنتظار.

يدور بأعينه في المكان، ينتظر وصول جثمانه إلى مثواه الأخير.

يبدو في وجهه بعض الشحوب، لكنه ما زال يحتفظ ببريق في عينيه، ونضرة في وجنتيه.

رائحة الموت لم تعد تثير فزعه

فالموت الذي كان يخاف منه، أصبح يراه في كل مكان، في البيت والعمل.

في حوادث الطرق وفي القطار، وفي المستشفى، لا شيء – على الإطلاق يُخفي عنه رائحة الموت

حتى الوجوه التي تحاوطه من كل اتجاه، يكاد يدميها ألم الفراق.

صفير عربات الإسعاف لم يتوقف، وتتوالى وفود الجثامين إلى المشرحة، هذا غريق، وغيره قتيل، وآخرين ضحايا حريق.

وضجيج صوت بائع الجرائد

يقتحم إصطفاف أهالي الضحايا وذويهم أمام المشرحة.

“إقرأ الحادثة.. إقرأ الحادثة.. قتلت جوزها عشان مجبش مانجا.. إقرأ الحادثة.. إقرأ الحادثة.. انفجار تانك بنزين على الدائري.. والضحايا والخساير ضخمة.. إقرأ الحادثة.. إقرأ الحادثة”.

يتوالى شريط الذكريات أمام عينيه، يستحضر في كل ركن دفئ أبيه، وحضوره البهي، ونبرة صوته الأنيقة.

وكيف حاله قد تبدل بين عشية وضحايا، إلى ضمور وإنعزال وانكسار ثم مرض فموت.

هي مأساته

التي أبدا ما كادت تنتهي حتى يستعر لهيبها من جديد وتجتزأ من جسده ولحمه ستين جزءً.

فترى دمه المسكوب على امتداد ضفاف النيل حتى يتيقن لك أنه جرحه ليس جرح إنسان بشري على الإطلاق، وأن أوجاعه أبدا لن تنتهي.

فمنذ أن استلم جثمان أبيه من مشرحة زينهم وهو أبدا لا يغادر هذا المكان.

وكلما جد في التذكار جرح، ترى خطواته تأخذه إلى مقام ” سيدة العلم ” ليبكي هناك، حتى يسقط مغشيا عليه.

كان مساء مؤلما حينما استيقظ على صخب إطلاق النار َوتكسير الأبواب والنوافذ.

إذ كان ينال قسطا من الراحة بعد يوم شاق من العمل في المصنع، المصنع الذي أسسه أبوه على أطراف صحراء ” حلوان”.

بعد مضنة السنين وشقائها

هب ليبحث عن أبيه، بعد إطلاق صفارات الإنذار، وتجمع العمال عن مخرج الطوارئ.

إنها عصابة المعلم “سمسم” من كبار معتادي الإجرام في الجيرة، وصحائف سوابقهم ملأى بظلمهم وبطشهم وتماديهم في غيهم وإذلالهم لكل من يعارضهم.

إلى ما يقرب من خمسة وأربعين عاما مذ أن نزحوا من الحدود الغربية للبلاد واستقروا هنا، ولكن ماذا يريدون.

لقد اعتادوا يوم الخميس من أول كل شهر لجمع الإتاوات، واليوم يوم الإثنين من منتصف الشهر.

فماذا عساهم يريدون؟

هواجس تخترق أعماقه بين دقات الفزع، وعقارب الساعة ودوي الرصاصات يغربل المكان.

اقتحم صالة الإجتماعات ليجد أباه ملقى على الأرض في دمائه، ومصاب برصاصة في كتفه وأخرى في ركبته.

وعلى رأسه المعلم ” سمسم” يبصمه على ورق، انكب على أبيه يحمله من على الأرض بين صيحات صبيان المعلم ” إبعد يا كلب”.

وانقضوا عليه يتناوبون عليه باللكمات والركلات حتى أوقعوه على الأرض إلى جوار أبيه.

“إنت شرفت يا عين أمك.. معلش أصلي هستلف المصنع منك تلاتين.. أربعين سنة قدام.

ومتزعلش يبني.. كله بالقانون.. أبوك مضى وبصم.. أبوك باع وأنا اشتريت..

يالا وبلاش دلع.. قوم إمضي شاهد”.

بهذه الكلمات أعلن المعلم ” سمسم” امتلاكه المصنع، فلم يجد ردا من ” سيد”.

لمحبي الخيال العلمي.. إليكم أكثر الروايات غموضًا وتشويقًا

وقال له : مضيه شاهد.

– أوامرك يا معلم.

حلم الشاب “سيد”

ورؤاه في استكمال الطريق الذي بدأه أبوه منذ عقود فجأة قد تبدد حين أفيق .

ليجد نفسه ملقى على الأرض أمام غرفة ” الغفرة ” ويتكأ ” تختخ” على رأسه والذي باغته قائلا :

شوف حنية المعلم، وقلبه الأبيض مهنش عليه تترمي في الشارع.. وعينك غفير بيومية محترمة.. فِذ يله قوم أشكره.

لم يستوعب ” سيد” ما قاله صبي المعلم، ونهض فزعا يمسح عن جبينه الأتربه، وأمسك بتلاليب ” تختخ” :

– فين أبويا.. فين أبويا
– أبوك إيه يبني.. هيا دي الشكرانية
-فين أبويا يا حرامية يا لصوص
– أبوك خلاص.. بحْ.. لو عاوزه روح حصله.

ومضت به الليالي

بعد تشييع جثمان أبيه إلى مثواه الأخير، يجوب بين الأضرحة منشدا ومبتهلا، ومسبحا وتائبا.

ويأخذه الطريق كلما تعب إلى مشرحة زينهم، يبيت هناك بالأيام، ينتظر قدوم الظالم قتيلا، إلا أنه لا يأتي.

” ياللي عنوانك مالوش طريق
افتح لي بابك
وقولي إنت مين “