“السوارس خبطتني يا سي السيد”.. حكاية عائلة سوارس وعلاقتها بالاقتصاد المصري

“السوارس خبطتني يا سي السيد”.. حكاية عائلة سوارس وعلاقتها بالاقتصاد المصري

ساهم السير ارنست بنسبة 50% من رأس مال البنك الأهلي المصري، وذلك بترحيب من الحكومة البريطانية في لندن واللورد كرومر في القاهرة، لأن ذلك يضمن لبريطانيا الحصول على نصيب الأسد في جميع الاستثمارات الرأسمالية الكبيرة في مصر. وكانت بريطانيا تسعى في الوقت نفسه إلى اتخاذ اجراءات صارمة من الاصلاحات المالية تهدف إلى تعزيز استثمارتها في الأراضي والري والنقل على أمل اتلاف تراكم رأس المال. ولأن البنك الأهلي يعتبر مكونا أساسياً لهذه الاجراءات الاصلاحية، فكان لازماً اضفاء الشرعية عليه كبنك مصري من خلال البحث عن شركاء محليين. ووقع الاختيار على رفائيل اساق سوارس كأحد الشريكين المصريين المؤسسين للبنك الأهلي المصري.

سوارس

وبعيداً عن العائلة الخديوية ودائرتها السنية، فقد سيطرت النخبة من العثمانيين والشاميين على الانشطة التجارية والمصرفية في كلاً من القاهرة والاسكندرية. وكان سوارس واحداً من هؤلاء النخبة، ونتيجة لذلك كان يتمتع بقوة سياسية لما كان يقوم به من توطين لممثلى القوى الاوروبية في مصر. وعلاوة على ذلك فقد كان بينه وبين الخديوي نسب، فتزوجت ابنته -من زوجته- اليكس مارت فريزت من الامير علي فاضل ابن عم الخديوي.

وقد اشترك روفائيل سوارس في تأسيس البنك الأهلي المصري بنسبة بلغت 25%، وأشرك معه أخويه يوسف وفيلكس وأصحاب البنوك المصرفية من اليهود التي تربطهم به علاقة مصاهره، وذلك كنوع من توزيع المخاطرة. وكان أكثرهم شهره فيجلي موسيري ويعقوب مويس قطاوي وليفي منشي ورولو فيجلي. والاغلبية العظمى من هؤلاء جاءوا إلى مصر خلال عصر محمد علي، وهناك مجموعة أخرى جاءوا من داخل الامبراطورية العثمانية من سالونيك وسميرنا وحلب والقسطنطينية وبغداد، وكانت حالة هؤلاء تشبه حالة سوارس الذي أتى إلى مصر من المدن الساحلية الاوروبية جنوب تريستي وليفورنو. وكان قطاوي من بين هؤلاء من يدعى أن له جذور وأصول مصرية. ولذلك لم يكن من المستغرب أن يستحوز على السكان المحليين تصور بأن مجموعات الأقليات هي التي تسيطر على المراكز الاقتصادية. وقد أثار هذا روح العداء والحسد تجاههم. ولكن في الواقع يعتبر نظام الامتيازات الذي حقق منه سوارس وشركائه استفاده كبيرة، هو السبب في ظهور مثل هذه الروح العدائية.

وكان نظام هذه الامتيازات الاجنبية في الامبراطورية العثمانية لا يختلف عن نظام الامتياز في شنغهاي والذي لا يحظي بشعبية هناك. واستفادت هذه الاقليات سواء أكانت اجنبية أو محلية في مصر من هذا النظام، وسرعان ما وضعت نفسها تحت حماية القوة الأوروبية.

ويتيح لهم هذا الوضع الحصول على فوائد اقتصادية كبيرة وإعفائهم من الضرائب والقوانين المحلية . ووفرت هذه الحماية لسوارس واخوته الالتحاق بمجلس إدارة البنك الاهلي. ويعتبر روفائيل سوارس واخوته مثال للرأسماليين المثاليين الذين استطاعوا الدمج  بين الموارد الفائضة في مصر ورأس المال الاستثماري الاجنبي، في الفترة التي كان فيها المصريين غير جديرين بالثقة، ومنجذبين ثقافيا نحو فرنسا وانجلترا، وذلك من وجهة نظر المستثمر الاوروبي.

ولم يدخر الوالد التاجر اساق سوارس شيء لتعليم أبنائه؛ روفائيل ويوسف وفيلكس. ولذلك كانت الايرادات المالية لكلاً من أبناء سوارس والبلاد الموجودين بها مذهله.  وحصل اسم سوارس على شهره كبيرة عام 1880، وذلك حينما أسس رافائيل سوارس ورأس المال الفرنسي البنك العقاري المصري. وعلى الرغم من هذه البداية الصعبة، فقد ساهم هذا المشروع التجاري الضخم في وضع البذور الاولى للاصلاحات الزراعية، وذلك بعيدا عن أموال المرابين. وارتفع اسم سوارس في مجال النقل، حينما اطلق اسحاق سوارس وسائل النقل الحديثة لأول مره في القاهرة والتي أطلق عليها آنذاك عربات سوارس، وكانت عبارة عن عربات تجرها الخيول وتسير في طرق محددة، وبعضها كان يصل إلى البساتين شرق القاهرة. وقام أبناء اسحاق عام 1889 بتطوير وسائل النقل ومد أول خط سكة حديد في مصر من باب اللوق إلى حلوان، ومد خطوط أخرى بعد ذلك في الدلتا وصعيد مصر وقنا وأسوان في الجنوب. ولم تمثل عملية ارتفاع اسعار شراء الارض وعربات السكك الحديدية وسلسة الحلقات مشكلة، فسوارس كان على علاقات طيبة بشركات الاستثمار الرئيسية في مصر، بالاضافة إلى أنه كان يمتلك الكثير منها، وقد ادى ذلك إلى اطلاق عليهم لقب روتشيلد مصر. وبالفعل أصبحوا مثل عائلة روتشيلد الاصلية، ومثلوا مصدر لاقراض الخديوي الذي كان رمز للدولة آنذاك.

وزادت أملاك سوارس بالتعاون مع السير ارنست كاسل لشراء أملاك الدائرة السنية الخديوية من الحكومة المصرية. وعلى الرغم من الشراكة المربحة مع كاسل، فقد حقق سوارس من خلال التعاون مع رأس المال الفرنسي اصلاح جزء من القطاع الزراعي في مصر. وقاما معاً بشراء وتحديث مصانع السكر التي أنشائها محمد علي، وبناء أخرى جديدة على النيل مثل تلك التي تم انشائها في الحواميدية. وكانت عائلة سوارس مسئولة عن العديد من المرافق والمؤسسات الحديثة المتعلقة بالتطور العقاري في حلوان. وامتدت تلك المسئولية للسيطرة على الحمامات الحرارية (المنتجعات الصحية) والفنادق والكازينوهات، بل وقام فيلكس سوارس بإنارة شوارع المدينة بالمصابيح الكهربائية لأول مره عام 1899، وكان هذا نوع من الدعاية الكبيرة آنذاك. ولتحقيق أكبر قدر من الاستفادة الناجمة عن الخصحصة، قام فيلكس بتوقيع اتفاق مع معارفه عام 1904 ينص على انشاء ضاحية مصممه تصميماً جيداً في منتصف الطريق على طول خط السكة الحديدية. وقد اطلق عليها المعادي الجديدة المتطورة، واعترفت الدولة وحكومتها من المصريين والبريطانيين بذلك. ولعلى أهم ما يوضح ذلك هو الحديث الذي دار بين الخديوي عباس حلمي الثاني ومستشاره المالي رافائيل سوارس بمناسبة اعادة افتتاح مصنع تكرير السكر بنجع حمادي عام 1909. والقى سوارس آنذاك كلمة ترحيبية في حضور ضيفه الملكي وأعضاء مجلس إدارة شركة السكر، وكان سوارس موجود بصفته مساهم رئيسي شركة عموم مصانع السكر وتكريره. ووصلت شدة اعجاب الخديوي آنذاك إلى اصدار فرمان بمنح سوارس الوسام المجيدي للامبراطورية العثمانية من الدرجة الأولى.

وكان هذا نص الفرمان: “يقترن اسمك ياسيد سوارس بجميع الاعمال التجارية في البلاد، ولهذا يسرني أن اعرب عن امتناني وتقديري، بمنحك الوسام المجيدي من الدرجة الأولى”. ويوضح ذلك نظرة الخديوي إلى الحدث ليس باعتباره إعادة تجديد لمصنع السكر، بل ثاني أكبر مصدر للانتاج في البلاد بعد القطن. ويدل هذا على بعد نظر الخديوي عباس حلمي الثاني، فقد كان يدرك مدى اهتمام سوارس بالصناعات الزراعية، الأمر الذي ادي به إلى الاشتراك في تمويل بناء خزاني أسوان وقنا. وكانت عائلة سوارس من أباطرة العقارات في مصر، فكانوا يمتلكون أجزاء كبيرة من الاراضي فيما كان يسمى آنذاك بميدان الاسماعيلية وهو أحد احياء القاهرة ويمتد من ميدان الاوبرا حتى ميدان اسماعيل- ويعرف الآن بميدان التحرير. وكان بنك سوارس يقع بجوار بنك التسليف العقاري، في جناح من مبنى سوارس القائم في أحد الميادين الرئيسية في البلاد. ولذلك لم يكن من المستغرب أن يتم تسمية هذا الميدان باسم سوارس، وقد ظل يحمل هذا الاسم حتى اعادة تسميته بمصطفى كامل تكريماً له كبطل قومي، ومازل تمثاله قائم حتى الآن في الميدان.

ولم تكن هذه الطبقة الثرية الجديدة هي النتيجة الوحيدة لعملية الخصخصة الأولى في مصر، فكان هناك كوادر جديدة كاملة من العمال ذوي الياقات البيضاء والمسؤولين التنفيذيين الذين ظهروا بفعل تطبيق نظام التعليم الغربي. ومع قيام ثورة 1919 والتحول من الاقتصادية الليبرالية إلى البرجوازية الوطنية، كان هناك الكثير من الشباب المصري الذي يدين بما وصل إليه من رفاهية إلى خصخصة الدائرة السنية. وكان من بين هؤلاء طلعت حرب باشا الذي احتذى بحذو الأجانب، وكان ينتمي لهذه الطبقة الجديدة من البرجوازية الناشئة. ويرجع ذلك إلى ارتباط طلعت حرب بعلاقات طيبه مع عائلة سوارس، كما قام بمواجهة وزير المالية آنذاك يوسف قطاوي باشا صهر سوارس، وتمكن طلعت حرب في نهاية الامر إلى انشاء بنك مصر ومجموعة شركات مصر وحصل على لقب “أبو الاقتصاد المصري”.