حكاية علم الآثار.. كيف نشأ؟ وما علاقته بالسيطرة على العالم؟

حكاية علم الآثار.. كيف نشأ؟ وما علاقته بالسيطرة على العالم؟

ليس من المستغرب أو من قبيل الصدفه أن يظهر علم الآثار لأول مره مع نشأة علم الجيولوجيا، كما انه ليس من قبيل الصدفه أن ترتبط تلك التطورات ارتباطاً كبيراً بالثورة الصناعية في أوروبا والأهمية الجديدة للتعدين في الاقتصاد الأوروبي. رأى المجتمع الأوروبي خلال القرنين الثامن والتاسع عشر ان معرفة المزيد عن الأرض يصب في صالح المصلحة الاقتصادية، وخاصة معرفة مكونات الأرض والمعادن والزيوت والجبس والرمال الموجودة في باطنها وتفسير طبقاتها وتاريخها. تعتبر رواسب ما قبل التاريخ جزء من هذا التاريخ، ويمكن استخدام القطع الأثرية لمرحلة ما قبل التاريخ مثل الرواسب لتأريخ وتفسير بعض هذه البقايا.

علم الآثار

لكن هناك تغيرات أخرى نتجت عن الثورة الصناعية وخاصة في البنية والسلطة السياسية، فقد دخلت الدول الصناعية الجديدة في المنافسة الاقتصادية مع بعضها البعض، وأدى ذلك إلى التغير السريع في التكنولوجيا. أصحاب القوة الجدد لا يحتاجون إلى التغير التكنولوجي فقط ولكن أيضاً إلى التغيرات الاجتماعية والأيديولوجية، التغيرات التي تجعل الإنتاج الصناعي أكثر كفاءة والصناعات أكثر قدرة على المنافسة. فطبقة النبلاء الذين يستمدون ثروتهم وقوتهم من الانتاج الزراعي وملكية الأرض لم يحبذوا التصنيع، أما رجال الدين الذين يدعمون النبلاء فكانوا أكثر خوفاً من التغيرات الجديدة واضطهاد كل من يشكك في مذاهب الكنيسة.

وكان جاليليو Galileo أول الضحايا لهذا الاضطهاد، وأُحرق جوردانو برونو Giordano Bruno على عمود لإثبات الحقائق العلمية. بالتالي انزعجت الكنيسة من التغيرات الصناعية والتكنولوجية والاجتماعية الجديدة. ووقفت مذاهب الكنيسة في كثير من الأحيان في طريق المنافسة الاقتصادية بين الدول والشركات الصناعية أو أقطاب الصناعة.

انتصر أقطاب الصناعة في الصراع وسيطروا على القوة السياسية من خلال الثورات كما حدث في المستعمرات الأمريكية في بريطانيا عام 1776 وفي فرنسا 1789. حاولوا فصل تأثير الكنائس على الأعمال والأنشطة، ودخلت الدول الجديدة في هذا الصراع. كانت السلطات الكنسية تزعم أنها تمثل إرادة الله كما ظهر في الكتاب المقدس، فمعظم الأساقفة يتعاملون مع الكتاب المقدس ككلمات حرفيه من الله عز وجل؛ ويعتقدون أن هذه هي الطريقة التي خلق بها العالم ويجب أن يتم العمل بها.

لذلك لجأ رجال الصناعة إلى إثبات أن الكتاب المقدس يجب أن يفسر لا أن يفهم حرفياً، ومن ثم تتلاشى مقاومة التغيرات التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية، وبحلول القرن التاسع عشر دخل الكثير من العلماء في هذا الصراع ومنهم تشارلز داروين Charles Darwin ووالاس Wallace وتوماس هكسلي Thomas Huxley.

وبما أن الكتاب المقدس يتناول الأحداث من مرحلة ما قبل التاريخ، كان لزاماً دراسة اثار وبقايا الماضي بكل حرص وعناية ومنهجية لاختبار دقة المسائل التوراتية.

أصحاب القوة الصناعية وممثليهم من السياسيين الذين يحاولون ادخال الصناعة إلى الاقتصاد وتغير المجتمع كانوا على يقين من أن التحقيقات والحفريات ستظهر أن الحسابات والمسائل الموجودة في سفر التكوين ليست صحيحة بشكل حرفي. وبالفعل كانوا على حق، ومن هنا ولد علم الآثار وكان له تأثيره الكبير على الوعي العام ومصائر الأمم.

لعب علم الآثار أيضاً دوراً مهماً اخر في صعود الدولة الصناعية الكبرى، وساهم هذا الدور في تكثيف الوطنية والوعي القومي. إلا أن الدول الصناعية في الغرب لا تنخرط ببساطة في منافسة ودية فيما يخص الأسواق الجديدة والمنتجات الأفضل. وتتوقف ثروات الكثير من الناس على نجاحهم في المنافسة الاقتصادية، وعدم استخدام السلطات السياسية للقوة المسلحة في تأمين المزايا الاقتصادية والتجارية.

تعمل الحكومات على الترويج للوطنية والقومية من أجل حشد المواطنين للتنافس الاقتصادي بين الدول الأخرى واللجوء إلى الحرب إذا اقتضى الأمر. وقد تم تشجيع أفكار النقاء العنصري (العنصرية) لتبرير النظام الاجتماعي وتشجيع مشاعر التفوق في المنافسة الاقتصادية والعسكرية.

لعب علم الاثار والانثروبولجيا دوراً مهماً في رفع الوعي الوطني في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من خلال مساعدة المواطنين في التعرف على حضارة السيلتك والرومان والتوتنيك وتعزيز أمجاد الماضي للأمة. في الولايات المتحدة شجعت قوة الطلب على الأراضي الزراعية خلال القرن التاسع عشر على رأي مفاده أن الشعوب الأصلية كانت أدنى عقلياً وأخلاقياً لدرجة أنهم لم يستطيعوا إقامة أعمال الحفر المعقدة من الأجزاء الوسطى والجنوبية من البلاد. وقيل أن أجناس أخرى هي من قامت ببناء التلال الكبيرة، وقد اختفت بعد ذلك .

وكان ينظر للأمريكان الأصليين أو الهنود الحمر على أنهم مغتصبين ومدمرين للأرض بدون أي  صفة شرعية لذلك. ولكن علماء الآثار أثبتوا خطأ هذه الإدعاءات، وبذلت محاولات مماثلة من قبل الناس المهتمتين بتفسير مرحلة ما قبل التاريخ في جميع أنحاء العالم وذلك لتحقيق مصالح شخصية في جنوب إفريقيا والمكسيك والبرازيل وروسيا وألمانية النازية والعديد من المستعمرات السابقة.