الرسالة الكودية ١٣

الرسالة الكودية ١٣

الرسالة الكودية ١٣.. ربما أجد بعض نفسي، مررت على ذات المقهى التي اعتدت الجلوس عليها، طُفت حول الكراسي والطاولات.

وقفت على البار أشم رائحة المعسل والهيل والتفاح، عبرت بعيني فوق أركان المقهى وجدرانها المطلية بأوجاع السنين.

اقترب مني “طلبة” القهوجي ويبدو عليه بعض الريبة لكنه وقف متأملا نظراتي ولم ينبث ببنت شفة واحدة، فسألته عن نفسي.

شوق

ربما يكون قد رآني أو رآها، فشوقي إلى ذاتي القديمة يجعلني في احتياج لاحتضانها والبكاء في جوفها.

ووضع “طلبة” صينية الطلبات على البار، وهو ينظر نحوي نظرة الملهوف، حتى أنه كاد ينطق، لكنه فجأة ودون سبب أعرفه، انسحب للخلف وهز رأسه.

وقال : أنت لست أنت، وانصرف إلى عمله.

شوقي إلى ذاتي القديمة، وروحي البسيطة العفوية، تدفعني دفعا نحو تساؤلات ليس لها بداية وليس لها نهاية.

مضيت في أزقة الحي أدق الأبواب..

وأقرع الأجراس، بين ضباب يشق إصباح النهار، وعاصفة أفكار تزلزل بنيان الأماكن.

وتحطم الأرصفة والنوافذ، وترانيم العاشق تهبط فوقي من السماء، ونظرة مُبتهل في حب الإله تطوف حولي حيث أروح في كل مكان.

لحظات من الطمأنينة ليست بالقليلة تدفئ قلبي في رحلتي للبحث عن ماضي لازلت أحفظه لكني لا أراه..

” أرفعُ يداي نحوك.. وأسبحُ باسمك
أنت عظيم.. ليس مثلك يا رب
تصنع العجائب
أنت عظيم.. ليس مثلك يا رب
تستطيع كل شيء
أهديك كل المجد والكرامة
بنور وجهك إني عائذ وجل
ومن يعذ بك لن يشقى إلى الأبد
مهما لقيت من الدنيا وعارضها
فأنت لي شغل عما يرى جسدي ”

أمضي في دروب الشك واليقين..

أبحث عن بيت جدي، ورائحة أبي، ووصية أحملها على طول سفري.

أرهقت كتفي، وأورثت الهم بين ضلوعي، لقد مررت يوما من هنا، أليس هذا بيت” دُرية ” هانم صاحبة يد الخير والعطاء.

لكل من مر من أمام بيتها ولمجرد أنه مر فقط، فنعم السيدات هي، كانت تحب العطاء بغير حدود.

ولِمَ قد تهدم بيتها وأين حديقتها التي كانت ملأي بكل ثمار الفواكه والخضروات، وأين اختفي دار كُتاب وسبيل ” أم هاشم” الملاصق لبيتها، أيعقل أن يكون قد هُدم.

” يا رب.. إله الجنود
من مثلك قوي يارب
وحقك من حولك
أنت متسلط على كبرياء البحر
بزراع قوتك بددت أعداءك
لك السموات.. ولك أيضا الأرض”

لقد تبدلت الأرض غير الأرض

وكأني في عالم غير الذي كنت أسكنه، بعدما شق الكوبري الجديد مسقط رأس أبي وجدي.

بم تضم من شواهد وأعمدة رخامية ودورنا ومتنزهاتنا وأسواق، في حينا الجليل – ابن الأشراف.

وقد زرع الكوبري دعائمه الخرسانية فوق أنقاض بيوت من عز التاريخ، ليناطح مآذن مرت عليها دهورا في علوها، وفي مجدها.

ويزيد بقبحه في علوه وفجره، غير آبهٍ بصراخات الأموات ولا حتى الأحياء.

حتى رفات الموتى لم تسلم من جرافة الهدم، فالجبانة التي أوى إليهم خيرة من مشى على الأرض بل وأشرهم أيضا بعدما أنقضى نحبهم.

لم يبقى منها إلا الحجارة والقباب والأعمدة المحطمة هنا وهناك، وكأنه إذان ببداية عهد، جديد.

لم يتضح له ملامح بعد، فمن يفي حق نبش القبور، وبأي حق أقتل وأصلب وأنا حي مرتين.

“طوبى للشعب العارفين الهتاف
طوبى للشعب العارفين الهتاف”

على طول رحلتي لم ينقطع صوت هاتف السماء، بأنشودة، بترنيمة، بخاطرك إيمانية.

ربما جاءت لتوها لتخبرني أن الأمل لا زال معقودا في معجزة من الله حتما ستأتي، فتجمعني بالشيء الذي قد ضاع مني.

والروح التي قد تلاشت عني رويدا رويدا، وشيئا فشيئا.

أعبر نحو المحال، بين الحقيقة والخيال، بين سخط وارتياح، بين جموح واستسلام وشتان بين هذا وذاك.

أقف أمام دار جدي..

طرقت الباب مرة بل مرتين حتى فتح الباب لي رجل غريب في ملامحه عن حينا، أسود البشرة، طويل القامة وجاحظ العينين.

وقد تكلم بكلمتين أيقنت منه أنه لا يجيد النطق بالعربية، نظر نحوي نظرة الملهوف، وكأنه كان ينتظرني وينتظر زيارتي هذه منذ أمد.

لكنه فجأة ودون سبب أعرفه، انسحب للخلف، وأشار لي على نحو أن انتظر!!

تُرى فمن ذا الرجل الذي يسكن بيت جدي، وأين أعمامي وبنو أعمامي، ومن أي البلاد أتى هذه الرجل وأنا لا أعرف لغته، ولا كنيته.

وما عرفت ولا سمعت شيئا عنه على الأطلاق، وأثناء صخب فكري عاد إليا وأنا ما زلت واقف في ذهول على الباب.

رسالة..

وسلمني مكتوبا، واستدار مغلقا الباب في وجه.

مائة سؤال مبهم دار في خاطري للحظات عن هذا المكتوب الذي في يدي، ربما كانت هذه الورقة نسخة من العقد الذي أمتلك به بيت جدي.

أو وصية منه شخصيا، ولكن فطنت في النهاية إلى إجابة ترضي فضولي وهو كون المكتوب رسالة من أبي يطمئني فيها ويخبرني عن مُقامه الجديد.

وإذ بي أفتح الرسالة حتى أجدها عبارة عن سطرا واحدا لا أكثر، وقد كتبت بخط عربي متقن وممهورة بحروف لاتينية من توقيع هذا الرجل الأجنبي.

وقد نص المكتوب على سطر ينهي حياة التيه والشقاء التي أحياها.

لتبدأ حياة تيه وشقاء أخرى ولكن في هذه المرة هي أشد فتكا وقهرا وبطشا وظلما.

“ما من أحد هنا في الحي يعرفك، فاركن حيث شئت أو احمل متاعك وارحل”

لم يزد المكتوب أو ينقص شيئا عن هذا السطر، وحقيقة الأمر فإني لم اكترث لمضنون ذلك المكتوب.

ابتهالات في حضرة الموت

ترانيم..

فليس للجرح بعد الموت إيلامُ، ومضيت مع الترانيم أغني في الدروب والطرقات :

“من لي سواك.. ومن سواك
يرى قلبي ويسمع
كل الخلائق ظل في يد الصمد
يا رب بنور وجهك يسلكون
باسمك يبتهجون اليوم كله
وبعدلك يرفعون لأنك أنت فخر قوتهم
أدعوك يا رب.. فأغفر ذلتي كرما
واجعل شفيع دعائي
حسن معتقدي”.