صفحة من حياة المرحوم

“يؤسفني أن أبلغك بخبر وفاتك”
كانت هذه نص الرسالة الهاتفية التي استقبلها صباح يوم ذكرى ميلاده الثالث والأربعين، إذ كان على مائدة الإفطار يستفتح يوما جديدا.
رغم كونه كان منهمكا في حب الحياة لكنه أبدا لم يعبأ لتلك الرسالة ، فقد كان دائما ما يخبر زوجته أنها لن تشقى بعد وفاته كثيرا ، ففي خزنة حجرة نومه يحتفظ بمبلغ نقدي ويقول أنها مصاريف جنازته، إلى جانب بعض المدخرات البنكية التي قد تعين ورثته على تحمل مشقة الحياة بعد رحيله.

فرغ من فطوره لكنه أبدا لم يفرغ من التفكير، فكان يعاتب نفسه بجدية ويراجعها على حركاتها وسكناتها، وأقوالها وأفعالها، لم يكن ليهدأ أبدا حتى كان يحاسب نفسه على أخطاء مضت عليها عقود من الزمن، ما زال يعرض أمام عينيه شريط الذكريات، وكيف هام على وجهه في الأرض تاركا ورائه أبيه وأمه وهو الإبن الوحيد لهما، مسافرا فوق بساط الأمل، يضنيه الجوع ليالي، ويشبعه ليله، ما زال يتذكر كيف هجر أباه للحظة قسى فيها عليه، حتى أن رجاء أمه لم تثنه عن قراره، فخرج على ظهر سفينة للبضائع متنقلا بين البلدان والعواصم، في رحلة انقطعت فيها أخبار أبواه، وأنحسرت أخباره عنها.

علقت عيناه في السماء وهي ينصت لنغمة رسالة هاتفية جديدة ” سيشيع جثمانك الكريم بعد صلاة ظهر الغد، وسيقام العزاء مساء ذات اليوم بقاعة مناسبات مسجد عمر مكرم ولا عزاء للسيدات”.
ابتسم وهو يقرأ نص الرسالة معتقدا أن أحد أصدقائه يداعبه، ولكن عندما اتصلت به زوجته لتخبره بمكيدة تحاك ضده، هنالك فطن لأمور كانت قد غابت عنه، وهنا قرر قائلا : لمَ لا ألعب اللعبة.

توقف بسيارته أمام مسجد عمر مكرم يشاهد خروج نعشه بعد أداء صلاة الجنازة عليه، في مشهد جنائزي مهيب يتقدمه نجلاه، وعدد من القيادات الشعبية والوطنية، ومستشار القانوني، ومدير أعماله.
– الله يرحمه
– محدش يعرف هو مات مديون بكام
– بيقولوا سدد
– مين إللي بيقولو
– وحدووووووووه

انطلق الموكب الجنائزي لإتمام مراسم تشييع الجثمان إلى مثواه الأخير، ويهمس أحدهم في أذن ” شادي” النجل الأكبر للمرحوم قائلا : أوعاك حد يحس بحاجه، لو الموضوع اتعرف هتصحل أبوك إنت وأخوك وأمكم، بس المره دي بجد.

على هامش الذكريات يتجرد المرحوم من براءته عندما أصر على الإنتقام من ” هيكل غريمه ” الذي دس له عبوة المخدرات في حقيبته أثناء التفتيش في إحدى المعابر الحدودية، ليتعرض للتنكيل من جهات التحقيق والتوييخ فضلا عن مدة احتجاز زادت عن السنتين، أراد خلالها هيكل أن يقفز على درجته على الباخرة، ويظفر بحبيبته، لم ينس المرحوم الخيبات التي تعرض لها بسبب صديقه المذعور هيكل، فبعد سبع سنوات تظاهر فيها بالنسيان وبسط يد الغفران والمحبة، دعا المرحوم غريمه لوجبة عشاء نيلية في إحدى الليلات على الباخرة ” كليوباترا” المملوكة له ، وقد دس له المنوم، وما إن فرغ من الطعام حتى سقط مغشيا عليه، هنالك حمله المرحوم وقيده وغل يديه للخلف بسلاسل حديدية صعبة الفك، وألقاه في قاع النيل.

– أيوب!! تفتكر أبوك هيصمد.
– لازم يصمد ويصبر ويصابر.. لأنهم مش هيسكتوا
أبوك أتقرا فتحتوا في السوق ومحدش هيسمي عليه.. ومتنساش مبلغ التأمين هيسد القروض إللي علينا.. وهنعرف نقف من جديد.

آلام تجدد وأحزان لا تنتهي، على شفير القبر يقف المرحوم بين ماض موجع، ومستقبل غموضه كغموض الأشباح في ليل كالح السواد، يتلمس خطوط التجاعيد التي كست وجهه، وقد إطمأن على جثمانه في مرقده الأخير، وتلا سورة الفاتحة على روحه الشريف، وانصرف عن المقابر بعدما اتموا تصريح الدفن، وأصبح في نظر الحكومة في عداد الموتى.