مصر واليونان.. هل يودعان آخر أثر تاريخي بينهم؟

مصر واليونان.. هل يودعان آخر أثر تاريخي بينهم؟

مصر واليونان.. حكاية تاريخ  في “توكيل جرائد”

البقاء وحيدًا هو السبيل للشموخ، والوحدة هي دوما نهاية العظماء.. غالبا هذه هي الحقيقة الصادقة الحتمية لمباني وسط البلد.

فكما هي قصص الصداقة الحزينة التي تنتهي بالفراق بالموت أو التخلي، كما هي قصص الأماكن العزيزة، التي تنتهي بالوحدة والنسيان.. والخواء.

وكثيرًا ما صادفتنا أماكن بهرتنا فيها معالمها وشوارعها ومبانيها، لكن ليس كثيرًا ما توقفنا عندها.

خطفت أبصارنا في وهلة مرور عابر، أعجبنا شكلها واختلافها، لكن لم نعرف قصتها ولا مآسيها، ومبان وسط البلد أعظم مثال على ذلك.

وسط البلد..

ذلك المكان العتيق بالقاهرة الذي حوله محمد علي باشا دون أن يعي إلى متحف يوناني على أرض مصرية.

المباني القديمة ذات اللون البني العتيق، الأروقة المعمدة، الكبائن المغلفة بزجاج الكريستال، والأعمدة التي تتوسط المبان بجسمها المستدير وتاجه المربع.

المبان المتراصة جنبا إلى جنب بشوارع القاهرة الكوزموبوليتانية، بشارع شامبليون وشريف وميدان التحرير.

مبنى من طراز خاص..

مصر واليونان

من منا لم يبهره الشكل القديم للمباني والعمارات، من منا تمشى بشوارع وسط البلد ولم يتوقف عند واحد من أعظم شوارع عماد الدين؟

ليشاهد ذلك المبنى العتيق الحزين، ذو الزاوية البعيدة الذي تعلو لافتته اسم “توكيل جرائد أثينا”.

ذلك المبنى ذو الباب الخشبي العظيم الذي تخللته الشروخ، وحين تفتحه تسمع ذلك الصرير الذي تصدره الأبواب القديمة، ليؤكد لك أنه لم يبقى منه سوى اسمه.

والذي أكد لنا الحديث القائل بأن الأماكن تكتسب معنى جديد حين تتعرف على حكايتها.

القاهرة الكوزموبوليتانية..

وتوكيل جرائد أثينا هو محل توارثته 4 أجيال من عائلة يونانية عاشت بمصر منذ عصر القاهرة الكوزموبوليتانية.

وهي القاهرة التي بناها محمد علي حين شرع في بناء دولته الحديثة، ومن ثم قرر الاستعانة بالخبراء الأجانب، لتأتي الجالية اليونانية كأكبر الجاليات الأجنبية انتشارا بمصر.

وخاصة القاهرة، ليجعلوا منها مركزا تجاريا لهم، حتى جاءت ثورة يوليو عام 1952، التي دفعت الغالبية العظمى منهم إلى مغادرة البلاد، وبقاء القليل.

وكانت العائلة صاحبة توكيل جرائد أثينا واحدة من تلك العائلات القليلة، اللاتي تمسكن بالبقاء بمصر، حبا وإخلاصا لها.

حكاية توكيل ووسيط..

وتوكيل جرائد أثينا هو الشاهد الأعظم على ثقافة اليونانيين المصريين، فهو محل جرائد يونانية تم إنشاؤه في عام 1890، من قبل السيد ستيفانوس.

لتوزيع الكتب والجرائد اليونانية على أفراد الجاليات اليونانية بمصر، وقد كان بمثابة الوسيط الإعلامي بين أفراد الجاليات المصرية واليونانية.

مهمة يومية..

ومنذ ما يقارب القرن كانت الجرائد المشهورة تأتي بالطيران من اليونان، أسبانيا، فرنسا وقبرص لتستقر بذلك المتحف الحديث.

أما المجلات كانت تأتي من خلال السفن إلى ميناء الإسكندرية ثم تأتي بذلك المحل الصغير.

ليقوم موظفي ذلك المحل والذين تألفوا من فريق من خمسة موظفين واثنين من “الشيالين”، بتوزيعها على سكان القاهرة.

من أصحاب الجنسيات اليونانية والقبرصية الذي وصل عددهم ما يزيد عن ٣٥٠ ألف شخص، أما أصحاب محال الجرائد الأخرى، كانوا يحصلون الجرائد بشكل مباشر.

أبرز الإصدارات..

توكيل جرائد

ليس هذا فحسب، بل أن المحل كان الوكيل الأوحد لمجلة “رومانزو” وغيرها من الإصدارات ذات الطابع الروائي الرومانسي.

تلك الإصدارات التي اختفت تماما ولم يعد منها سوى بضعة أعداد قديمة مركونة على أرفف المحل، تنتظر مصيرها النهائي.

بالإضافة إلى عدة كتب تاريخية، ومجلات الموضة، وعدة قصص أطفال، تعود أعمارهم إلى أكثر من 15 سنة.

توقف غير نهائي..

لكن بالطبع مع تناقص أعداد الجاليات اليونانية تلك الفئة التي كانت تهتم بشراء المجلات وما واجهته من أزمات في أثناء الأزمات السياسية، انتهى دورها.

ثم أتى الانترنت والمواقع الالكترونية للصحف والمجلات، ليكون بمثابة الضربة القاضية التي أنهت حياة ذلك الصرح التاريخي.

ومنذ عام 2000، وقد بدأ نور المكان يخبو إلى أن انطفأ نهائيا بعدها بعامين، وتحول إلى مكان تراثي شاهد على تاريخ الصحافة اليونانية بمصر.

الخواجة نيكولا..

توكيل جرائد

والآن فالمحل من نصيب، الوريث الأخير والوحيد، الخواجة نيكولا ذلك الكهل السبعيني، الذي انتقل مع والده إلى القاهرة فى الستينيات.

ليشاهد والده السيد مودوناس ستيفانوس وهو يستكمل مسيرة جده في إدارة المحل، ومن ثم ينضم إليهم وهو في العشرينات من عمره، ليستكمل مشوارهم.

ويقص الخواجة نيكولا الحكاية..

أنه منذ سن العشرين وهو يرافق والده بالمحل، لدرجة جعلته يلم بكل ركن بالمكان، حتى قبل أن يتم نقله من بناية المتروبول، إلى شارع سرايا الأزبكية.

وأنه رغم ذلك التنقل بين الأمكنة إلا أن مهمة التوكيل كانت واضحة، وهي جلب الصحف والمجلات من اليونان وتوزيعها على جالياتها بمصر.

لكن مع مرور الوقت وتوقف النشاط الأصلي للمكان وتحوله عن دون قصد من قبل الجميع إلى أثر أو تراث حي، لفترة من فترات مصر العظمى.

رفقة الورق والأتربة..

مصر واليونان

فقد ظل الخواجة اليوناني وحيدا في مصر، حيث هاجرت كل أسرته بمن فيهم من ابنه الوحيد إلى اليونان، تاركينه وحيدا وسط قوقعته ذات الأتربة.

لكن رغم ذلك فهو لا يزل متمسكا ببقائه في مصر، كاشفا عن عشقه وارتباطه بها، إضافة لارتباطه بالمكان الذي شهد حياته بأكملها.

منذ الطفولة حتى الشيب والعجز، وأنه رغم سفره لليونان لفترات متباعدة وطويلة إلا أنه لا يستطيع التخلي عن مصر.

آمال مستحيلة التحقق..

والآن يعيش الخواجة نيكولا حياة التنقل بين القاهرة والإسكندرية، ناظرا إلى وكالته ومكتبه ذو أكوام الأوراق والكتب العتيقة.

آملا في فتح أبواب الوكالة مرة أخرى لاستعادة مكانتها القديمة أو حتى أي جزء أو جانب من نشاطها القديم.

الصرير الأخير..

مدركا استحالة حدوث أي من ذلك، متيقنا من كونه في لحظة ما سيكون الشخص الأخير الذي سيقوم بغلق ذلك الباب الخشبي ذو الصرير الحزين المدوي إلى الأبد.

لتنتهي معه حكاية متحف الورق والإعلانات واللافتات والكتب التي وثقت قصص من التاريخ والأيام في فترة ما.

في عيد ميلاده ال67.. ما هي القصص الحقيقية لأغاني محمد منير؟!