معركة وادي لكة.. بوابة حضارة عريقة دامت قرون

معركة وادي لكة.. بوابة حضارة عريقة دامت قرون

معركة وادي لكة وتحديداً في مثل هذا الشهر من  19 يوليو 711 للميلاد، وفي  اليوم 28 من  رمضان 92 هـ، حدثت المواجهة الكبرى بين جيش المسلمين بقيادة الأمير طارق بن زياد وبين جيش القوط تحت إمرة لذريق في شبه الجزيرة الأيبيرية، وقد استمرت المعركة 8 أيام متواصلة والسيوف تشتبك بضراوة، والقتلى يتزايدون،  ويصف ابن عذاري جيش المسلمين وهم في المعركة فيقول “فخرج إليهم طارق بجميع أصحابه رجّالة، ليس فيهم راكب إلا القليل،  فاقتتلوا قتالًا شديدًا حتى ظنوا أنه الفناء”، لذلك صنفت هذه المعركة بأنها من  أشرس المعارك التي  خاضها المسلمون في العصر الأموي وتوجت بالنصر فكانت بوابة حضارة عريقة دامت في الأندلس ما يقارب  ثمانية قرون.

الأحداث  التي سبقت معركة وادي لكة 

كانت شبه الجزيرة الأيبيرية تحت سيطرة الملك القوطي لذريق “رودريك” الذي قام بالإحاطة بحكم الملك السابق  بمساعدة أعيان  من طليطلة،  مما تسبب بخلاف في البلاد،  حيث حاول أخيلا  ابن الملك  السابق استعادة حكم أبيه، لكن كبار القوط لم يرغبوا في جعل صبي يرأسهم،  وكانوا على عداء مع والده. 

وعلى الرغم من ذلك ظل أخيلا يطالب بالحكم،  مما وضع المملكة في حالة من الإنقسام والتوترات بين ملكين حكم كل منهما جزءاً من البلاد،  وانتشرت الفوضى في المنطقة واندلعت الثورات،  فتدهورت قوة القوط وضعف جيشهم.

والجدير بالذكر أن الأوضاع المتردية لم تكن متوقفة على خلاف الملكين فقط،  بل ساد نظام الطبقات المقيت الذي جعل الشريحة الأكبر من الناس ترزح تحت سلطة الطبقات الأعلى والتي حرمتها حتى من أبسط الحقوق الإنسانية. 

حيث انقسم أهل أسبانيا قبل معركة وادي لكة إلى 

  • طبقة النبلاء وهم سلالة القوط وكانت لهم  أفضل الأراضي الزراعية الخصبة، مع إعفائهم التام من الضرائب، وكانت لهم خيرات البلاد والمناصب. 
  • طبقة رجال الدين لكن هم أبعد خلق الله عن الدين فقد كانوا يبررون ظلم وجور الحكام على الرعية مقابل تملك بعض الأراضي الزراعية الخصبة، واستغلوا السلطة الروحية أسوأ استغلال. 
  • الطبقة الوسطى وتضم صغار التجار وملاك بعض الضياع الصغيرة وموظفين الدولة، وكان عليهم العبء الأكبر من الضرائب التي تهرب منها طبقة النبلاء ورجالات الدين. 
  • طبقة الأقنان وهم عبيد الأرض وهي أكثر طبقة مسحوقة فقد كانوا يعملون في الأراضي الزراعية وفي الأعمال المنزلية لدى ملاكها كما كانوا ينتقلون مع الملكية من سيد لآخر، حتى أن سيدهم له حق الحياة والموت عليهم 

ذلك الفساد المتفشي والظلم الجائر أدى إلى قيام الثورات تلو الثورات، أولئك المحرومين حتى من حقوق الحياة أنى لهم أن يمتلكوا أي شعور بالإنتماء تجاه هذا الحكم الظالم.

على الجهة الأخرى كان القائد موسى بن نصير يبسط الحكم الإسلامي العادل على كامل القارة الإفريقية والمغرب العربي  باستثناء منطقة سبتة، والتي كانت تحت  حكم ملك يدعى جوليان.

وعلى ضوء الأحداث الحاصلة ومع تزايد الانقسام والفوضى في الداخل القوطي عزم القائد موسى بن نصير على فتح شبه الجزيرة الأيبيرية حين كان والي القارة الأفريقية وأرسل  يستأذن الأمير الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك في  فتح الأندلس، فأمره الخليفة  بأن يختبرها بالسرايا،  ولا يغرر بالمسلمين.

أمر موسى بتجهيز سرية استكشافية من 100 فارس و400 جندي، يقودهم طريف بن مالك، فعبر المضيق ونزل على الشاطئ الجنوبي لإسبانيا في رمضان 91هـ، وعرف المكان الذى نزل به بإسم جزيرة طريف نسبة إليه، حيث أحرز طريف نجاحاً وافراً ثم عاد إلى المغرب. 

تذكر بعض المصادر عن مساعدة يوليان للعرب المسلمين  انتقاماً من الملك لذريق الذي اغتصب ابنته أثناء زيارتها للبلاط  وكانت عادة بين النبلاء قديما لكن لذريق أعجب بها وانتهك حرمة  ضيافتها، فأراد والدها الإنتقام لها فعرض مساعدته لجيش المسلمين من خلال مساهمة ببعض سفنه التجارية في  الحملة. 

التجهيز لمعركة وادي لكة 

شجع الإنتصار السهل الذي أحرزته الفرقة بقيادة طريف بن مالك  القائد موسى بن نصير على التقدم قدماً، فعيّن طارق بن زياد والي طنجة ونظّم له جيشًا من الأمازيغ الذين دعموا الجيش الأموي في الأندلس دعمًا كبيرًا، فقد كانوا على دراية بأرض إسبانيا وأهلها وحالها.

وأبحر من سبتة بسرِّية تامة عِبرَ سفن  تجارية وعَبر مضيق جبل طارق في شعبان 92 هجري، ثم نزل في جبل طارق ومنه انتقل إلى الجزيرة الخضراء التي واجه فيها الجيش القوطي.

وقد عرض عليهم أن يدخلوا الإسلام وأن يترك لهم أملاكهم، أو يبقوا على دينهم وتبقى لهم أملاكهم ويدفعون الجزية، أو يحاربوا، فاختاروا الأخيرة.

ولما حاول النزول منعه جماعة من القوط، فأتم عمليته ليلاً مرةً أخرى، وأمّن جيشه وسلامته، وواجه القوط بعدها وانتصر عليهم.

اجتاح طارق بن زياد بجيشه  الجزيرة الخضراء، وحقق انتصارات متتالية، حيث كان رودريك منشغلاً يشن حملة في الشمال على المتمردين البشكنس،  حين بلغته أخبار تقدم جيش المسلمين نحو قرطبة،  جن  جنون لذريق فطلب من جميع الأشراف والنبلاء والإقطاعيين أن يحشدوا المقاتلين، حتى اجتمع لديه ما يقارب 100 ألف،  وانطلق من الشمال قاصدًا المسلمين في الجنوب. 

أرسل طارق بن زياد لموسى بن نصير يشرح له مستجدات الأحداث طالباً منه المدد،  فبعث له بخمسة آلاف آخرين ليرتفع عدد المقاتلين المسلمين من 7000 آلاف مقاتل إلى اثني عشر ألفاً أغلبهم من الرجالة،  دخل بهم معركة وادي لكة. 

معركة وادي لكة وسير الأحداث 

سميت معركة وادي لكة  نسبةً للوادي الذي وقعت فيه، وأخذ الوادي اسمه من نهر “لكة” الذي يسمى بالإسبانية غواداليتي،  وسميت أيضًا بمعركة لاخندا نسبةً إلى البحيرة القريبة من موقع القتال، كما سميت  هذه المعركة بأسماء أخرى كثيرة، منها شري، والسواقي،  و معركة  شذونة. 

التقى الطرفان في 28 رمضان 92 هجري الموافق 19 يوليو/تموز 711 ميلادي. 

فريق يملكه ملك جائر لرعيته، لم تخرجه إلا أطماعه، يتوشح حليًة ذهبيًة ويحمل على رأسه تاجًا من الذهب،  لا يهمه من الأمر سوى الإنتصار لنفسه،  يتبعه 100 ألف من الفرسان،  و جلهم يعلم أنه لن يكسب شيئ من هذه المعركة سوى التضحية بحياته من أجل ملك أجوف الفكر، يقود بأنانيته  وطغيانه بلاده إلى الخراب.

وفريق على الجهة المقابلة  فيه رجال جاؤوا يُعْلُونَ كلمةَ اللَّه أولاً و من خلفهم الخليفة الوليد بن عبدالملك الذي كان حريصًا  منذ البداية على سلامة جنده، فلم  يقبل بخوض غمار  معركة وادي لكة قبل أن يتم  إرسال  سَريِّة استطلاعية، درست المكان وعادت بالنصر ، أما القائد موسى بن نصير الذي استجاب بسرعة لطلب المدد من قائد الجيش طارق بن زياد الذي قال مستنهضًا الهمم جملته الشهيرة “البحر من ورائكم والعدو من أمامكم فأين المفر”.

اختار  هذا القائد المسلم أرض معركة وادي لكة  بحكمة ولم يكن إختياراً عشوائيًا لهذا الوادي، بل لأسباب استراتيجية  دقيقة، فقد أحاط بظهر جيشه و ميمنته جبل شاهق، وأمامه وضع فرقة قوية بقيادة طريف بن مالك لتمنع أن يلتف حوله جيش لذريق، أما عن يساره فحمته بحيرة كبيرة، وترك الشمال ليواجه منه لذريق وجيشه.

قُتِل من جيش لذريق عدد كبير حتى قيل إن عظامهم بقيت تملأ الأرض وقتًا طويلاً، وقيل إن لذريق قتل، وقيل فر من ساحة القتال، وقيل غرق في البحيرة الموجودة هناك، لكن ما يُعْرف أنه لم يُذكر بعد معركة وادي لكة أبداً، وبذلك انتهت المعركة لصالح المسلمين الذين قُتِل منهم 3 آلاف بنصر مؤزر تم بفضل الله وثبات وهمة جيش القائد طارق بن زياد، الذي عاد إلى دمشق بعد تلك الفتوحات في بلاد الأندلس والتي وصلت حتى قرطبة ولم يظهر بعدها في أي محفل سياسي أو عسكري لكنه خلف ورائه أثراً طيبًا من تمهيد الطريق لإولى لبِنَاتْ حضارة الأندلس  العريقة. 

  نتائج معركة وادي لكة

  • تعتبر  معركة وادي لكة نهاية عصر مظلم يملؤه الجور والاستبداد والجهل وبداية  لصفحة جديدة من الرقي والتحضر،لا تزال معالمها شاهدة على  تقدمها حتى يومنا هذا. 
  • غنم المسلمون  من معركة وادي لكة غنائم عظيمة كان أهمها الخيول فكان أغلبهم رجالة وأصبحوا خيالة. 
  • دخل المسلمون  معركة وادي لكة ب12 ألفاً وانتهت المعركة وعددهم تسعةُ آلاف، فكان تعداد الشهداء ثلاثة آلاف، رَوَوْا بدمائهم الطاهرة أرض الأندلس، فأدخلوا هذا الدين إلى الناس. 

ملامح من حضارة الأندلس 

أحدثت الحضارة الإسلاميَّة تحوُّلاتٍ اقتصاديَّة هامة  فقد تنوع النشاط الاقتصادي  بين زراعة وصناعة و تعدين، وأُدخلت صناعة السكر والزيوت والزيتون والصابون والأدوية، والصناعات المعدنية مثل الذهب والفضة والحديد، وكانت تشكل إحدى أهم أقطاب صناعة الفخار في العالم.

وقد أنشأت الأسواق في العهد الإسلامي وبدؤوا بتصدير منتجات المناجم ومصانع النسيج والجلود وبعض المشغولات الفارهة إلى أوروبَّا والمغرب العربي والشرق، وكانت الورش والمحال التي يُصنع بها هذه المنتجات ملكًا للدولة.

زراعيًا استخدم المُسلمون طرقًا حديثة للزراعة أو ما يُعرف باسم وسائل الهندسة الزراعية، وأنظمة الري، وقد أنتجوا أنواعًا جديدة من الخضار والفاكهة  مثل التين والعنب والأرز والباذنجان والخرشوف وقصب السكر والزيتون والكتان والقطن والموز، وبرز أيضًا إنتاج العسل واوجدوا مزارع خاصة لتربية دودة القز، ووضعوا تقويمًا زراعيًا خاصًا سُمي بالتقويم القرطبي، وأبدعوا في طرق تطعيم النباتات، وبفضل ما قدموه للزراعة، فقد تطورت وبلغت ذروتها، واقتبست أوروبَّا الأسس العلمية الزراعية التي توصل إليها المُسلمون، كما أن المسلمون العرب أول من أدخل طواحين الهواء إلى الأندلس.

ويشهد التاريخ أن الحضارة الاسلامية قد أثمرت خيراً كثيراً في كل أرض وطئتها.

بعض ما قاله الغربيون في حضارة الأندلس

قال فيها ملك بريطانيا تشارلز الثالث في محاضرة ألقاها  في أوكسفورد بعنوان “الإسلام والغرب” ذكر فيها فضل المسلمين على إسبانيا  وأوروبا قائلاً “إن هناك قدراً من الجهل بالفضل الذي تدين به ثقافتنا وحضارتنا لعالم الإسلام،  فالعالم الإسلامي في العصور الوسطى كان عالماً ازدهر فيه الباحثون المختصون ورجال العلم،  ولكننا جنحنا إلى تجاهل ذلك،  وقللنا من أهمية ثمانِ مئة سنة،  كانت أوروبا خلالها عالة على اسبانيا الاسلامية التي حافظت على العلوم والمعارف فوضعت الثقافة الإسلامية في الأندلس أساس  اللبنات الأولى لنهضة أوروبا”.

وقال حولها  الباحث والأستاذ في علم الجمال الإسباني خوسيه ميجيل بويرتا  “ظهرت  مؤخراً أجيال معجبة وفخورة بالماضي الأندلسي لهذه الأرض،  بكل ما فيه من تنوّع لغوي وثقافي،  وقامت البلدية بتسمية المزيد من الشوارع والحدائق بأسماء مسلمين أندلسيين غرناطيين،  والحق يقال لم تكرّم بعد كما ينبغي تلك الشخصيات الغرناطية المسلمة البارزة ولا حتى بناة قصور الحمراء، وهي القصور التي من خلالها تُعرف غرناطة في العالم،  وتعتبر  الموقع الأكثر جذبًا للسياحة في إسبانيا، وتعتزّ  السلطات بقصر الحمراء وتقدّمه للعالم رمزًا للمدينة”.

كتب تناولت الحضارة الاندلسية 

  1. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
  2. فجر الأندلس
  3. رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها
  4. تاريخ الأندلس من الفتح الإسلامي حتى سقوط الخلافة في قرطبة
  5. رحلة الأندلس حديث الفردوس الموعود
  6. المسلمون في الأندلس
  7. العمارة الإسلامية من الصين إلى الأندلس
  8. أربعون سببًا في سقوط الأندلس
  9. تاريخ الأندلس المصور
  10. دولة الإسلام في الأندلس

وستبقى معركة وادي لكة واحدة من أهم الأحداث التاريخية.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *