في ذكرى ميلاده .. سعيد صالح وعثرات في حياته لا يعلمها الكثير
يتزامن اليوم الأربعاء الموافق 31 يوليو، ذكرى ميلاد الكوميديان الراحل سعيد صالح، ذلك العبقري الذي استحوذ على ثلث تاريخ السينما المصرية، الفنان الذي أبهر جمهوره على المسرح بعدد من المسرحيات الكوميدية وفي طياتها رسالة توعوية هادفة، ومن شدة شغفه بالمسرح وتعلقه به أطلق على نفسه اسم “فتى المسرح”، وكان قد اكتشفه وقدمه لمسرح التلفزيون، الفنان والمخرج الكبير حسن يوسف، ولأكثر من مرة في حياته تعرض للحبس، وواجه العثرات على اختلاف الأسباب.
سعيد صالح في الحبس للمرة الأولى
في بداية أعماله وتحديدًا في عام 1981، قدم الفنان الراحل مسرحية بعنوان “لعبة اسمها الفلوس”، وفي خلال العرض، قال جملة خارجة عن النص المسرحي: “أمي اتجوزت 3.. الأول وكلنا المش، الثاني علمنا الغش، والثالث لا بيهش ولا بينش”، قالها باللهجة المصرية العامية، وقد أُعتبرت تلك العبارة سخرية من رؤساء مصر، مما أدى إلى توجيه تهمة له بالتهكم والسخرية من القادة السياسيين.
وعلى إثر ذلك، حكمت المحكمة بحبسه لمدة ستة أشهر وتغريمه 50 جنيهًا مصريًا، تلك القضية أظهرت بوضوح العداء بين سعيد صالح والرقابة، التي اتهمته آنذاك بانتهاك الآداب العامة والتعرض للقيم الدينية، وفي نفس الجلسة، أصدر القاضي محمد بدر حكمًا بحبسه احتياطيًا لمدة سبعة أيام في سجن الحضرة بالإسكندرية، ولقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يحبس فيها فنان احتياطيًا لخروجه عن النص المسرحي.
ثم رفضت المحكمة طلب الرد المقدم من سعيد صالح، وغرمته بمبلغ 100 جنيه إضافية، وأسقطت حقه في طلب رد القاضي، ولقد أثارت هذه القضية في وقتها جدلًا واسعًا، وأصبحت قضية رأي عام، مما أدى إلى تنحي القاضي محمد بدر عن القضية.
ولقد روى بلال فضل في برنامجه “الموهوبون في الأرض”، عن انهيار سعيد صالح بالبكاء عند صدور الحكم بالإفراج عنه، حدث ذلك عندما تولى القاضي عبد الوهاب أبو الخير متابعة القضية وأصدر قراراً بالإفراج عنه بكفالة مالية قدرها 100 جنيهًا مصريًا.
سعيد صالح ومسرحية كعبلون والمخدرات
بعد الحادثة المثيرة للجدل، قرر سعيد صالح خوض مغامرة فنية جديدة تمزج بين الكوميديا والرسائل العميقة الموجهة للمجتمع، وفي خلال هذه الفترة، برزت موهبته في التلحين والغناء، حيث تأثر بأسلوب فنان الشعب سيد درويش.
وفي مسرحية “كعبلون” عام 1985 ، أبدع صالح في تقديم قصائد صلاح جاهين، فؤاد حداد، وأحمد فؤاد نجم، بصوته وألحانه المميزة.
وبينما كانت المسرحية تحقق نجاحًا كبيرًا بفضل “الأفيهات” وخروجه المتكرر عن النص، تعرض مسرح “الهوسابير” بالقاهرة لحريق غامض أتى على ديكورات “كعبلون”، وهذا الحادث كاد أن يقضي على المسرحية تمامًا، إلا أن تسجيلها تلفزيونيًا حفظها من الزوال وخلّدها في ذاكرة الجمهور، ثم خرج سعيد صالح من تجربة “كعبلون” وحريقها الغامض دون أن يتراجع عن نهجه الجريء في الفن والحياة.
وبعد مرور سنوات، واجه تحدياً أكبر في نوفمبر 1991، حيث تم القبض عليه في وكر بحارة “مظهر” في ضاحية “السيدة زينب” بالقاهرة.
يقال إنه كان يتعاطى المخدرات مع أحمد توفيق، المعروف بلقب “النسر”، والفنان صبري عبدالمنعم وستة آخرين، وهذه الحادثة كانت من بين العديد من المواقف الصعبة التي واجهها صالح في مسيرته الفنية.
وسريعًا ما انتشر هذا الخبر، وتصدر عنوانين أخبار الفن، لكن وحتى بعد أمر النيابة العامة بالحبس المؤقت عدة أيام على ذمة التحقيق، تمت تبرئتهم من قبل المحكمة لاحقًا وذلك بسبب عدم كفاية الأدلة.
شبح المخدرات يطارد الفنان من جديد
لم تنته الابتلاءات عند هذا الحد في حياة سلطان الكوميديا كما كان يلقبه زملائه، حيث لم تمض سنوات طويلة تكرر مشهد التوتر في حياة سعيد صالح، عندما تم القبض عليه مرة أخرى، وكانت هذه المرة في محافظة الإسكندرية في منطقة مصطفى كامل وتحديدًا في عام 1995، حينما كان برفقة سبعة من الأصدقاء يتعاطى المخدرات.
وتمت إحالتهم إلى محكمة الجنايات، وفي 11 نوفمبر 1995 قضت المحكمة بحبس صالح لمدة عام مع الأشغال الشاقة، إضافة إلى غرامة قدرها 10 آلاف جنيهًا مصريًا، كذلك نالت العقوبة ذاتها والغرامة ذاتها، مدير أعماله حمدي حنفي وهاشم أحمد محمد.
وفي الجانب الآخر، برأت المحكمة الفنانين سعيد طرابيك وشعبان جعفر والمحامي سراج الدين محمود، كما برأت سعيد صالح من تهمة إدارة مسكن لتعاطي المخدرات، مما أضاف بُعدًا جديدًا للملف القضائي.
وقد كانت تلك المرحلة من أقسى مراحل حياة الكوميديان الراحل، فقد كان محبسه بجوار غرفة المشنقة، مما أفقده شهيته وزهد المأكل والمشرب، وظل يتذكر ابنته الوحيدة ويستحضر طيفها لتهون عليه قسوة الحبس ظلمًا وبهتانًا، وعانى طوال فترة حبسه في حسن الحضرة بالإسكندرية حتى تم الإفراج عنه بعد عام.
عن تصريحاته بعد السجن
بعد أن تم الإفراج عن الراحل، ظهر في الإعلام وتحدث عن سبب اختفاءه وتجربة السجن، قائلًا:
في عام 1996، اختفيت تمامًا عن الساحة الفنية بسبب فترة السجن التي قضيتها، وأنا فخور بالوقوف في وجه الظلم والدفاع عن قضايا أؤمن بها، حتى لو كلفني ذلك حريتي، وطالما كانت مواقفي السياسية ورفضي للوضع الراهن معلومة للجميع، وهي الدافع الرئيسي وراء محاولاتهم لإسكاتي بشتى الطرق.”
وأضاف صالح: “اتُهمت بتعاطي المخدرات أثناء وجودي مع أصدقائي في مساكن مصطفى كامل بالإسكندرية، عندما كنا بصدد مولد مسرحية جديدة، لكن الحقيقة هي أنني كنت أحاول الإقلاع عن التدخين في ذلك الوقت، فهل يُعقل أن مدمن مخدرات يسعى لترك التدخين؟! الحمد لله أن أصدقائي والمقربين مني لم يصدقوا هذه الاتهامات الملفقة.”
ثم أردف قائلًا: “وجدت نفسي أتحسن صحيًا في السجن، ربما لأنني كنت بعيدًا عن ضغوط العمل والمسؤوليات، قد يكون الأمر غريبًا للبعض، لكنني شعرت بحرية أكبر خلف تلك القضبان الباردة، حيث كنت أمارس كرة القدم، وأشارك في أنشطة اجتماعية متنوعة، كذلك تطورت ثقافتي بشكل ملحوظ بفضل الراديو الذي كان رفيق محبسي الدائم.
لقد كانت شهور السجن فرصة للتأمل والاقتراب من الله، وقرأت العديد من الكتب وعشت في السجن مع أبطال قصصهم حقيقية، متنقلاً بين حكاياتهم المدهشة، وفي كل قصة قرأتها أو سمعتها كانت تصلح لتكون مادة درامية لفيلم أو مسرحية”.
عندما غادر سعيد صالح السجن، كانت مشاعره مختلطة ومتضاربة، مما جعله يفكر مليًا في كيفية استئناف مسيرته الفنية بعد كل تلك العثرات، ووصف الكوميديان الراحل تلك اللحظات الصعبة قائلاً:
“شعرت بخوف وهزة نفسية عميقة، على الرغم من الاستقبال الحافل الذي لقيته عند خروجي، إلا أنني كنت أشعر بقلق شديد يعتصرني من الداخل، وبالفعل صدمتني أساليب بعضًا من الناس الملتوية وأفكارهم المريضة، حتى أنني تمنيت للحظة العودة إلى السجن، ولكنني خرجت من هذه التجربة أكثر قوة وصلابة، فحياتي قبل السجن كانت شيئًا، وبعده أصبحت شيئًا آخر تمامًا.”
رحيل الفنان سعيد صالح
سار الزمن بالفنان نجم الكوميديا سعيد صالح، الذي حافظ على نقائه وتلقائيته المعهودة للجميع، وبالرغم من ابتعاده عن أدوار البطولة، إلا أن مكانته بقيت راسخة في قلوب جمهوره في مصر والعالم العربي.
وفي سنواته الأخيرة، كان ملتزماً بأداء الصلوات وقراءة القرآن وأداء فريضة الحج، ولكن مع تفاقم الأمراض، دخل في غيبوبة انتهت برحيله في 1 أغسطس 2014، وهو اليوم الذي صادف عيد ميلاده السادس والسبعين، مما أضاف لمسة أخرى من القدر إلى حياته المليئة بالأحداث.
رحم الله الفقيد واسكنه فسيح جناته، وألهم أهله الصبر والسلوان.