العز بن عبد السلام: سلطان العلماء .. الذي باع الأمراء

العز بن عبد السلام: سلطان العلماء .. الذي باع الأمراء

سلطان العلماء هو الشيخ العز بن عبد السلام، وهو الذي باع الأمراء المماليك في أوجّ مجدهم.. كرقيق.

هو عالِم دينٍ إستثنائي، بَلَغَ من العلم أرفع الدرجات، وبلغ من الشجاعة ما مكّنه من مواجهة الملوك والسلاطين.. بعِلمِه، حتى سجنوه، ولكنه صَمَدَ حتى انتصر لدينه ومبادئه، وشارك في قتال الصليبيين والمغول، فكان حريًّا بأن يُلقب بسلطان العلماء وشيخ الإسلام.

كان عصر الدولة العباسية آخِذًا في الأفول، في النصف الأول من القرن ال13 الميلادي، فَعَمّت أرجاءها الفوضى والإضطرابات السياسية، وتتالِي الدول الإنفصالية والحكام الإنتهازيين، وكان العز بن عبد السلام، في قلب تلك المرحلة، يضع بصمة فيها، لن يتجاهلها التاريخ.

عاصر العز بن عبد السلام، كلًّا من الدولة الأيوبية الدولة المملوكية، اللتين إمتدتا بين مصر والشام، وكان بين حكام الإقليمين نزاعات، وصراعات، وتحالفات ماكرة.

وقد أدت الاضطرابات السياسية التي عمّت ذلك العصر، إلى حالة ركود علمي، وتفَسّخ اجتماعي وأخلاقي، فآثر كثير من علماء الدين السلامة، فلزموا الصمت ولزموا بيوتهم، ومَن كان يصدح بكلمة حق، كان مصيره إما السجن أو القتل، فكانت أيامًا عصيبة.

حياة العز بن عبد السلام في دمشق:

وُلد العز بن عبدالسلام في دمشق سنة 1181م ودرس بها العلوم الشرعية واللغة العربية، فبرع في كل ذلك، وتولى الخطابة والتدريس في الجامع الأموي بدمشق، الذي كان جامعةً للعلوم والطلاب والعلماء، فذاع صيته.

الجامع الأموي (دمشق) - ويكيبيديا
الجامع الأُموي بدمشق

وقد كان العزبن عبد السلام، على المذهب الشافعي في أمور الفقه، أما في أمور العقيدة فكان على مذهب الإمام أبي الحسن الأشعري، من أهل السنة والجماعة.

وعندما ذاعت شهرة العز العلمية في دمشق، كان الأشرف موسى الأيوبي، ملِكًا على الشام، وكان يميل لعلماء المذهب الحنبلي، الذين أضمروا السوء للعز بن عبد السلام.

فاستغل الحنابلة خلافًا فلسفيًا بين رأي الحنابلة ورأي الأشاعرة (ومنهم العز) في مسألة فلسفية ثارت في ذلك العصر، والمشهورة بفتنة خلق القرآن، والتي حوكم وحُبس ومات بسببها الإمام أحمد بن حنبل.

استغل الحنابلة المقربون من الملك الأشرف موسى الأيوبي، ما كان يردده العز بن عبد السلام، مما يخالف المستقرَّ من رأي الحنابلة في وعي الملك الأشرف.

فقد كان الحنابلة معلميه ومرشديه الدينيين، فأوغروا صدر الملك تجاه العز، وأقنعوه بأن مايقوله يلامس الكفر، ففرض على العز إقامة جبرية في بيته، لا يغادره، ولا يستقبل فيه أحدًا.

ثم كان أن تدخل شيخ المذهب الحنفي في دمشق لدى الملك الأشرف، فبيّن له وجاهة ورجاحة رأي العز في المسألة المثارة، فرجع الملك الأشرف عن موقفه تجاه العز، وحاول استرضاءه، فأبَى العز مجالسته أو مصاحبته، مستمسكًا بعزة نفسه، مستغنيًا عن قُربة الملوك.

وكذلك فعل العز بن عبد السلام، مع الملك الكامل الأيوبي (صاحب مصر) حين وصل دمشق لزيارة الملك الأشرف، وطلب مقابلة العز فأبَى.

فأرسل إليه الملكُ الكامل، أن يكتب له رسالة بفحوَى الخلاف الفلسفي الذي سبب الأزمة مع الملك الأشرف، ففعل العز، وعاتب الملك الكامل ـ الملك الأشرف، في أمر العز، فاعترف الأشرفُ للعز بمقامه ومكانته.

ولما حضر الأشرفَ الموتُ أرسل للعز بن عبد السلام، يطلب إليه الدعاء والمشورة، فنصحه العز بأن يتقي الله ويُنهي المظالم، فأمر الملك نائبه و ولي عهده الصالح إسماعيل بأن ينفذ ما يشير به عليه العز، مما أحفظ إسماعيلُ على العز، معتبرًا ذلك بمثابة الوصاية عليه من العز.

ومات الأشرف صاحب دمشق، وتولى إسماعيل، وفي مصر مات الملك العادل وتولى الصالح أيوب، الذي حشد جيشه يريد ضم الشام إلى مصر.

ففزع إسماعيل من ذلك فزعًا بالغًا، فلجأ إلى الصليبيين وتحالف معهم ليعضّدوه ضد الصالح أيوب، ونزل لهم مقابل ذلك عن أجزاء من الشام، بل وسمح للصليبيين بأن يبتاعوا السلاح من دمشق استعدادًا لملاقاة الصالح أيوب.

فلجأ الناس إلى العز بن عبد السلام، يستفتونه في بيع المؤن والسلاح للصليبيين، فأفتَى العز بحرمة ذلك، وهاجم الملكَ إسماعيل من على منبر الجامع الأموي، مقـبّحًا الخيانة وموالاة الأعداء.

ودَعَا العزُّ اللهَ دعاءًا فُهم منه أنه يدعو لخلع السلطان، فلما بلغ ذلك إسماعيل، أمر بعزله عن الخطابة وسجنه.

وبعد عدة أيام استشعر إسماعيل خطر خسارة الجبهة الداخلية بسجنه العز، فأخلَى سبيله، وحدد إقامته ببيته، وامتثل العز بالأمر لأيام، ثم قرر ترك دمشق والتوجه إلى مصر، فخرج وأخذ طريقه إلى مصر، ولكن إسماعيل أرسل في إثره يسايسه على الرجوع، فلما رفض سجنه في القدس.

ولما وصل الجيش المصري إلى القدس وهزم الصليبيين، نُجّي العز، واستأنف مسيره إلى أرض الكنانة.

حياة العز بن عبد السلام في مصر:

أكرَمَ الصالحُ أيوب ـ العز، و ولاه الخطابة في مسجد عمرو بن العاص، وعينه قاضي قضاة الفسطاط والوجه القبلي، فتألق العز من جديد، وعلا سهمه في الفُتيا ودرسِ العلمِ في الديار المصرية، وشرع في إعمار المساجد المهجورة وترميمها، والتف حوله من المصريين خلقٌ عظيم.

وكان الصالح أيوب قد ابتدع شراء المماليك، ليجنّدهم في جيشه، إتقاء غدر أقاربه الأيوبيين به، حتى تكاثر المماليك في مصر، وصار لهم شأن كبير في ديوان السلطان وفي الجيش، وعلى المصريين، فلما عَرَضَ ذلك على العز، رآه منافيًا لما اشترطه الفقه من أن يكون ولاة الأمر أحرارًا، لا أقنانًا.

ولكنه لم يشأ أن يشنّع بهم، أو يُغرِي بهم، فخاطبهم في السر أن مناصبهم وأموالهم وزيجاتهم، كلها على غير الشرع، لأنهم مازالوا أقنان ولم يُعتقوا، وأنهم أُبتيعوا من بيت مال المسلمين، وأنهم ملك لمسلمي مصر جمعاء، لا للسلطان وحده.

أحفظ ذلك المماليك على العز، وضجوا بالشكوى من ذلك إلى الملك الصالح أيوب، الذي عاب على العز تدخله في هذا الأمر، وأغلظ له القول، فلاحت نُذُرُ مواجهة بين العز من ناحية، والسلطان ومماليكه من ناحية، فيا أهلًا بالمعارك.

عَزَلَ العز نفسه عن كل مناصبه، وقرر مغادرة مصر، فحمل أغراضه وأغراض أسرته على حمار، وقَصَدَ الطريق، ولم يكن قد غادر أسوار القاهرة بعدُ إلا وتبعه الناس، متضامنين معه مستمسكين به، وبَلَغَ ذلك السلطان، ونَصَحَه ناصحٌ: أن أدرِك مُلكك، وإلا ذَهَبَ بذهاب العز.

فانطلق السلطان في إثر العز بن عبد السلام، فوجده في جمع غفير من الناس يمنعوه من السفر، ويمنعوه من السلطان ومماليكه، فلم يَجد السلطان بدًا من السماع إلى فتوى العز، وهو وجوب بيع المماليك في مزاد علني، وأن تؤل أثمان بيعهم إلى بيت مال المسلمين، ثم إن شاء مشتروهم أعتقوهم وإلا بقوا على حالهم، أقنان، لايصلحون للإمارة.

حاول السلطان مسايسة العز، فلم يفلح، وحاول المماليك ترهيب العز، فخَسِــئوا، فنزل السلطان على أمرِ العز، وأمرِ الشعب المؤيد للعز.

أقيم المزاد، وراح العز يزايد ويبالغ في أثمان المماليك، ما أضطَر الصالحَ أيوب أن يدفع أغلى الأثمان، لإستنقاذ مماليكه من البيع لغيره، فاشتراهم أجمعين، ثم أعلن عتاقهم، وأُودِعت أثمانهم بيت مال المسلمين، وانتصر المعز لشرع الله  (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (سورة الحج:40)

عاد العز لممارسة عمله، كما كان قبل أزمة بيع الأمراء، ولم تمضِ سنة على ذلك إلا وقد بَلَغَ العزَّ بأن أمين ديوان السلطان، المدعو معين الدين بن شيخ الشيوخ، قد اتخذ فوق أحد مساجد القاهرة: “طبلخانة”

ويُقصد بها: ما نُطلق عليه الآن: ملهى ليلي، تُدقّ فيه الطبول وترقص الراقصات، وما إلى ذلك، وقد كان مشهورًا عن أمين الديوان ذلك، التحلل والعبث والتيه بنفوذه.

وكالعادة ثار العز لحُرُمات الله، وأصدر فتوى بهدم الطبلخانة، ثم أعلن عزل نفسه عن القضاء، وخشية ألّا تُنفّذ فتواه خشية جبروت معين الدين، شمّر العز عن ساعديه واصطحب أبناءه وخُلصاءه، ويمّموا نحو الطبلخانة، فما أبقوا منها على قالب إلا حطموه.

طَبَقَ خبر تلك الواقعة الآفاق، وبلغت به شعبيةَ العز عنان السماء، ولم يملك السلطان إلا أن يقرّ العز على فعله، وأن يطلب إليه أن يرجع لمهام عمله في القضاء والفتوى والخطابة.

عاصر العز بن عبد السلام، مادار في مصر، زمن وفاة الملك الصالح أيوب، وما أعقب ذلك من إضطراب سياسي عَصَفَ بالبلاد، والحملة الصليبية التي تزامنت مع ذلك الإضطراب.

Sherien Hamdy🌷 on X: "دار القاضى بن لقمان المكان الذى سجن فيه ملك فرنسا لويس التاسع؛ بعد هزيمته المنكرة واذلاله على يد قوات الجيش المصرى بزعامة فرسان وأمراء المماليك فى معركتى المنصورة
دار إبن لقمان بالمنصورة

وكان للعز كلمةٌ عليا على أمراء مماليكِ تلك الحقبة، حتى أن المؤرخ السيوطي (1445 ـ 1505) ذكر أن الظاهر بيبرس “كان منقمعًا تحت كلمة العز، لا يستطيع أن يخرج عن أمره، حتى إنه قال لما مات الشيخ: “ما استقر مُلكي إلّا الآن”

كما عاصر العز هجمة التتار، وكان أن دعا الظاهرُ بيبرس الوجهاءَ والعلماء، لمناقشة كيفية تدبير ميزانية تمويل الجيش المسيّر لقتال التتار، فإقترح بيبرس فرض مزيد من الضرائب على المصريين، لأن بيت المال خالٍ.

فإتجهت أنظار المجتمعين نحو العز، وكان قد جاوز الثمانين من العمر، فأشار على السلطان بأن يبيع كل ما لدى الأمراء من بهرج الدنيا، حتى لا يبقى لأي أمير إلا سيفه وفرسه، فإذا إحتاج أكثر من ذلك، فليفرض عندها مزيدًا من الضرائب على المصريين.

مؤلفات العز بن عبد السلام:

ترك العز بن عبد السلام مكتبةً عامرة بمراجع علوم الشريعة، منها: تفسير القرآن ـ أمالي (وهو في عدة أجزاء) ـ مختصر صحيح مسلم ـ  رسالة في علم التوحيد ـ الفتاوي الموصلية ـ الفتاوي المصرية، وغيرها الكثير من المراجع.

وفاة العز بن عبد السلام:

قبل وفاة العز، أتاه رجلٌ، فقال له: رأيتك في منامي تنشد:

وكنتُ كَذِي رِِجلين: رِجلٌ صحيحةٌ ورِجلٌ رَمَى فيها الزمانُ فَشُـلّتِ

فأطرق العز، ثم أجاب محدّثه: “أعيش من العمر ثلاثًا وثمانين سنة، فإن هذا الشّعرَ لِكُـثَيّر عَزَّة (644ـ732م) ولا نسبة بيني وبينه غير السن، أنا سُــنّي وهو شـيعي، وأنا لست بقصير وهو قصير، ولست بشاعر وهو شاعر، لكنه عاش هذا القدر”

قبر «العز بن عبدالسلام» في خبر كان ..انهيار بقايا مشهد الإمام ووزارة الآثار لم تسجله كأثر تاريخي
قبر العز بن عبد السلام، وقد تهدّم

تُوفي العز بن عبد السلام، سنة 1262م عن ثلاثة وثمانين عامًا، ودُفن في آخرالقرافة بسفح المقطم، من ناحية البِركة (قريبًا من مسجد السيدة نفيسة) وحضر الصلاة عليه وجنازته ودفنه خلائق مهولة من المصريين، أمَّهم السلطان الظاهر بيبرس، وأُقيمت على العز بن عبد السلام صلاة الغائب في كل مساجد مصر والشام والحجاز، رحِمه الله.