عصر المماليك وتأثيره على حياة المصريين

عصر المماليك وتأثيره على حياة المصريين
شجر الدر

267 سنة هو عُمر عصرالمماليك، تعاقب على كرسي الحكم فيها 55 حاكماً، وتوزعت تلك الحقبة بين الخلافتين العباسية والعثمانية، وامتدت حدود الدولة المملوكية شمالاً حتى طرطوس وملطية وحلب، وشرقاً حتى الفرات، وجنوباً حتى شمالي الحديدة في الحجاز، وأجزاء من السودان، وامتدت حدودها الغربية على ساحل المتوسط حتى برقة.

جذور ونشأة عصر المماليك

إبان القرن الثالث عشر الميلادي كانت بلاد الترك (تركيا – أوزبكستان – تتار – كزك – أذربيجان ) والتي تمتد من صحراء وسط آسيا القاحلة إلى حدود منطقة سيبيريا المتجمدة، تعاني شظف العيش، لقلة الموارد.

ما حدا بالقبائل فيها للتقاتل، فسادت الاضطرابات وانتشر الجهل والجوع، ما ولّد لدى تلك القبائل عادة بيع أطفالهم كرقيق.
تزامن ذلك مع تعاظم خطر المغول واندفاعهم تجاه الشام ومصر التي كان يحكمها الأيوبيون تحت الحكم العباسي، واحتياج الحكام لتقوية جيوشهم لصد خطر المغول، و وجدوا ضالتهم في أسواق الرقيق التي فاضت بأولئك الأطفال القادمين من بلاد الترك.

وكانوا بتأثير المناطق الآتين منها: غلاظ القلوب، وأشداء، ولم يسمعوا أو يتخيلوا شيئاً عن رفاهية العيش، ولا يعرفون أنسابهم فلا قرابة بينهم، فكانوا خامةً ممتازة لأن يكونوا مقاتلين.
كما تزامن ذلك مع انقسام دولة الأيوبيين في مصر وتصارعهم على الحكم، واحتياج أطراف الصراع إلى عديد جنود يستقوون بها، فامتلك الصالح نجم الدين أيوب عدة آلاف من المماليك، ما قوّى شوكته، فاستطاع أن يعيد توحيد الأيوبيين، واستقر له الحكم، كسابع الحكام الأيوبيين.

عصر المماليك البحرية

بدأ عصر المماليك البحرية عندما ابتنى الملك نجم الدين أيوب في سنة 1241م لمماليكه قلعة في جزيرة روضة المنيل، وساكنهم فيها، وأُطلق عليهم المماليك البحرية، وكانوا شوكة دولة الصالح نجم الدين وعصابة سلطانه وخواص داره.

وكانت قلعتهم أسطورة ذلك الزمان، فقد استغرق بناؤها ثلاث سنوات، و زُوّدت بستين برجاً، في حين كانت قلعة صلاح الدين تحوي ثلاثة عشر برجاً.

بدأت بذرة عصر المماليك في النمو في مصر، فما إن كان القِنّ منهم يبلغ الحلم حتى يبدأ تحفيظه القرآن، منخرطاً في تدريب عسكري على شتى فنون القتال، حتى يبلغ الثامنة عشر من عمره، فيحمل لقب “مقدم” ثم يتدرج في سلك العسكرية، وكان منهم مَن يتقلد إمارة الجيش، وكان منهم مَن يُعتق ويُكنّى بإسم الحاكم.

برز من المماليك في تلك المرحلة: فارس الدين أقطاي، وركن الدين بيبرس، وعز الدين أيبك، الذين كانوا قادة أركان جيش الصالح نجم الدين في قتال الصليبيين في حملتهم السابعة، وانتصروا عليهم.

وأسروا الملك لويس التاسع في معركة المنصورة الشهيرة سنة 1250م، إذ ذاك توفي الصالح نجم الدين، في الوقت الذي كان الجيش المصري يحاصر دمياط للقضاء على ما تبقى من الصليبيين.
كتم قادة الأركان المماليك خبر موت الصالح نجم الدين عن الجيش، وأتمروا بأمر “شجر الدر” زوجة الصالح لحين تنصيب توران شاه بن الملك الصالح، الذي ما إن تحقق النصر المبين، حتى تطاولت بطانته على قادة الأركان يبغون تهميشهم، فعمد الأركان: أيبك، وبيبرس، وأقطاي إلى قتله.

ونصّبوا “شجر الدر” ولُقبت بأم الخليل، وخُطب باسمها على المنابر ونُقش لقبها على العملة وتولى إمارة الجند: عز الدين أيبك، وبذلك توفيت دولة الأيوبيين إكلينيكياً، وبدأ مخاض عصر المماليك.

وقد كان النفَس الأخير في عمر الدولة الأيوبية، محاولة فاشلة من فتح الدين عمر بن العادل – إبن أخ الصالح نجم الدين لخلافة عمه، مع نقم المصريين لولاية امرأة، ورفض الخليفة العباسي المستعصم بالله لتولّي امرأة، فتمت البيعة لعز الدين أيبك (الصالحي النجمي – نسبة للملك الصالح نجم الدين) سنة 1250م، ليكون أول مملوك يُتوّج بحكم مصر.
ولّى “أيبك” ـ سيف الدين قطز ـ نائباً له، وأمَره في سنة 1254م بقتل “أقطاي” (ثالثهم في قيادة جند الصالح نجم الدين) و فرّ مماليك “أقطاي” بقيادة “الظاهر بيبرس” من القاهرة عبر بابها الشرقي (القراطين) إلى الشام.

تآمرت شجر الدر على قتل عز الدين أيبك، ثم اقتصّت زوجة أيبك من شجر الدر، وتولّي سيف الدين قطز سدة الحكم، وصياً على نور الدين علي إبن أيبك ـ لثلاث سنوات، حتى لاح خطر المغول، فقام قطز بعزل نورالدين، ونصّب نفسه حاكماً سنة 1259م.
وفي السادس من فبراير 1258م سقطت بغداد في أيدي المغول بقيادة هولاكو، وقتلوا الخليفة المستعصم بالله العباسي هو وأهله جميعاً، فزُلزلت الخلافة العباسية، وكان وقع ذلك على المسلمين مروّعاً، حيث تَهدَّد دين الإسلام بزوال دولته.
قرر قطز مجابهة المغول، فأصدر عفواً عن المماليك البحرية أتباع أقطاي، واستدعاهم للجهاد ضد المغول، وحشد قواته وتقدم لمواجهتهم، والتقى الجيشان التتري والمصري في 26 رمضان 658 هـ الموافق للثالث من ديسمبر 1260 م، في سهل عين جالوت، شرق فلسطين، وانتصر المسلمون.

و كانت هذه المعركة واحدة من المعارك الفاصلة في تاريخ العرب والإسلام، وشكلت نقطة البدء في الحضور المملوكي سياسياً وعسكرياً، وأضفت شرعية على حكم عصر المماليك لأكثر من قرنين ونصف قرن من الزمان.
قال المؤرخ ابن العماد عن قطز في “شذرات الذهب” : “كان بطلاً شجاعاً حازماً كسر التتار كسرةً جبر بها الإسلام، واستعاد منهم الشام، فجزاه الله عن الإسلام خيراً”.
وبعد انتصار قطز بخمسين يوم، يستمر حمام دم عصر المماليك، فيقتل الظاهر بيبرس ــ قطز، ثأراً لمقتل أقطاي، ثم يتولّى بيبرس الحكم سنة 1260م.
تعاقب على الحكم في عصر المماليك (31) من المماليك البحرية، كان آخرهم الصالح زين الدين الحاجي (1381 ـ 1382م).
وقد كانت التحديات العسكرية التى واجهت دولة المماليك البحرية جدّ ضخمة، فقد حاربوا الصليبيين والمغول بنجاح، وفى نفس الوقت ظهر منهم قادة كبار مثل سيف الدين قطز، والظاهر بيبرس، والمنصور قلاوون، والأشرف خليل، والناصر محمد بن قلاوون.
وكان من أشهر سلاطين دولة المماليك البحرية: الناصر بدر الدين ابو المعالي الحسن بن الناصر محمد ـ الشهير بالسلطان حسن بن قلاوون.

الذي تولى الحكم في 18ديسمبر عام 1347م، كسلطان للدولة المملوكية بمصر والشام والحجاز، وبنى مسجده الشهير جامع السلطان حسن، والذي يُعد درة العمارة المملوكية، وأضخم مساجد مصر عمارةً وأعلاها بنياناً.

وانتهى حكم المماليك البحرية بعدما تعاقبوا على عرش الدولة لنحو (132) عاماً من (1250 ـ 1382م) كحقبة أولى في عصر المماليك، وكان أبرز ما جرى في عهدهم كبح جماح التتار في عدة مواقع، فدفعت خطرهم عن مصر، وكفّت عدوانهم على بلاد الشام.

وكان سلاطينها مستقلين بمصر، ووصل نفوذهم حيناً إلى شواطئ الفرات والجزيرة، وما وراء ذلك، كما وصل حيناً آخر إلى بلاد المغرب.

عصر المماليك
عصر المماليك

عصر المماليك البرجية (الجركسية)

كان “الظاهر برقوق” قد حكم للمرة الأولى إبان حكم المماليك البحرية في الفترة من (1382 ـ 1389م) ليعود للحكم مرة أخرى في الفترة من (1390 ـ 1399م) ليؤسس دولة المماليك البرجية أو الجركسية، كحقبة ثانية في عصر المماليك.
والجركس: لفظ أعجمي يعني “الرجال الأربعة” بمعنى القبائل الجركسية الأربعة الرئيسة وهي: سركس ـ أركس ـ كسا ـ آص، وهي القبائل التي تندرج تحتها الفروع القوقازية الأخرى.
وكان أول من جلب الشركس من موطنهم بحوض البحر الأسود إلى السلطنة المملوكية، السلطان المنصور سيف الدين قلاوون ـ المتوفي 1290م، ذلك أنه اتبع سياسة أستاذه الملك الصالح أيوب، في جلبه للمماليك الترك (البحرية) ليكونوا أقرب إليه من الأكراد وغيرهم من عناصر الجيش الأيوبي.

فكذلك فعل المنصور قلاوون بجلب الجراكسة ليكونوا عوناً له، وأقرب إليه، وحائط صد أمام بقايا المماليك البحرية إذا عزموا على الانقلاب عليه، قال المقريزي في خططه: “أكثرَ المنصور قلاون من شرائهم، وجعلهم وطائفة اللاض (اللاظ) جميعا في أبراج القلعة، وسماهم البرجية، فبلغت عدّتهم ثلاثة آلاف وسبعمائة، ونُسبوا إليه”
أقام المماليك الشركس في أبراج قلعة جبل المقطم، لذلك سُموا بالمماليك البُرجية، وقصد قلاوون فصلهم عن المماليك الترك، وكانت عناية قلاوون بالمماليك البرجية الجدد سبباً في خلق الحنق العنصري بين الجراكسة والترك.

في سنة 1294 قَتل نائبُ السلطنة التركي بدر الدين بيدرا ـ السلطانَ الأشرف خليل بن قلاوون، فثار المماليك البرجية الأشرفية (نسبة إلى السلطان الأشرف خليل) لمقتل أستاذهم.

ولم تهدأ ثائرتهم حتى قتلوا الأمير بيدرا شر قتلة، ومثّلوا بجثته، وقتلوا من اشترك معه في قتل أستاذهم السلطان خليل ـ من الأمراء الترك، و زكت البغضاء بين الفرقتين: الترك (البحرية) والشراكسة (البرجية).

وقد كان من أهم الشركس القادمين من بلاد القوقاز المملوك “برقوق” الذي سرعان ما ارتقى في السلك العسكري حتى صار أميراً، واستطاع بدهاء ومكر شديد أن يُقصي كافة منافسيه على الزعامة، حتى استطاع الوصول إلى العرش.

ليؤسس دولة المماليك الشراكسة (البرجية) والتي ستستمر حتى مجيء العثمانيين ودخول السلطان سليم الأول إلى مصر سنة 1517م.

ظهر من المماليك الشراكسة سلاطين على قدر كبير من القوة والشهرة، مثل “قايتباي” صاحب القلعة الشهيرة بالأسكندرية ومسجده بصحراء المماليك ــ وبرسباي، وجقمق، وقانصوه الغوري، وطومان باي.

تعاقب على الحكم في عصر المماليك الثاني ـ من المماليك البرجية (24) حاكماً، كان آخرهم السلطان الأشرف طومانباي، الذي حكم من (1516 ـ 1517م) وهُزم في موقعة الريدانية أمام السلطان العثماني سليم الأول، لتزول دولة المماليك، وتتحول مصر إلى ولاية عثمانية.
لم ينتهِ عصر المماليك في مصر بزوال دولتهم وحلول السلطة العثمانية مكانها، بل عمد العثمانيون للإستعانة بهم في إدارة شئون البلاد، وكان العثمانيون قد قسموا القطر المصري إلى أربع وعشرين سنجق “مديرية” وعينوا على رأس كل سنجق واحداً من بقايا زعماء عصر المماليك الموالين لهم، أُطلق عليه لقب “البيك”
ولما توفي السلطان سليم الأول سنة 1520م وخلفه ابنه السلطان سليمان القانوني، أنشأ المجلس الأكبر والمجلس الأصغر، وكانا مجلسين لتسسير شئون الحكم والإدارة، وكان للمماليك نصيب فيهما، كما أضاف السلطان سليمان للحامية المصرية فرقة من الجنود ضم فيها عتقى المماليك.
وكان مماليك ذلك العصر، كعادتهم في عصر المماليك بحقبتيه، لا يختلطون بعامة المصريين، بل عاشوا مترَفِّعين في مَعْزلٍ عنهم، وقليل منهم من تزوج وكوَّن له أسرة، إذ كان دَيْدَنهم القتال والفروسية، فلم يرضوا بما يشغلهم عن ذلك.

ومعظمهم كان يموت في ساحة الوغي ولمّا يزال في ريعان شبابه، ومن عاش منهم عيشة هادئة ورضي بالزواج ـ وقليل ما هم ـ كان نسله يندمج تدريجياً مع المصريين.
وقد غالى المماليك في أواخر العصر العثماني في ابتزاز الأموال من الأهالي، وانغمسوا في الترف في مسكنهم وملبسهم ومعيشتهم، على غير عاداتهم الأولى ـ إبان عصر المماليك ـ المبنية على الخشونة في كل شيء.
واستمر المماليك على هذا الحال، حتى تدهورت أحوال الحكم العثماني لمصر، وارتخت قبضته عليها، فظهر محمد علي، وتولى حكم مصر، وتعاون معه المماليك في البداية، إلا أنهم كانوا يمثلون مركز قوة في البلد، مما أثار قلق الوالي الجديد.
وفي سنة1811م، وبناءًا على أمر السلطان العثماني، حشد محمد علي باشا جيشاً بقيادة نجله طوسون، لإخماد تمرد ضد الدولة العثمانية بالحجاز، إلا أن محمد علي خشى من إنقلاب المماليك عليه بعد سفر جيشه.

فقرر في يوم 1مارس 1811م إقامة حفل ضخم في قلعة صلاح الدين، دُعي إليه (10.000) من أعيان وأكابر القطر، وذلك لوداع الجيش المتجه إلى الحجاز، وكان من بين المدعوين (470) من كبار المماليك، وعندما حان وقت تحرك الجيش لمغادرة القلعة، سار المماليك في موكب الوداع.

وما إن دخل الموكب في الممر الصخري المؤدي إلى باب العزب، حتى أُغلق الباب دون المماليك، وانهال الجند بقيادة “لاظوغلي باشا” على المماليك حصداً بالبارود، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، حتى سالت الدماء من القلعة إلى منطقة الدرب الأحمر، وانصرم بهذه المذبحة عصر المماليك، واستقر الحكم لمحمد علي باشا.

ولكن الشراكسة لم ينقطع ذكرهم فيما بعد من صفحات التاريخ المصري، فقد ورد ذكرهم إبان أحداث الثورة العرابية سنة 1882م، في عهد الخديوي توفيق بن إسماعيل، حين قام أحمد عرابي بإحالة عدد من ضباط الجيش الشراكسة للتقاعد، ونقل بعضهم للخدمة في الجيش المصري بالسودان، فدبروا مؤامرة لاغتياله، تم اكتشافها وإحباطها.

وفي 12 أبريل 1882م تم القبض على (19) ضابطاً منهم شاركوا في محاولة الاغتيال تلك، وسيقوا إلى مجلس عسكري أُلّف لمحاكمتهم. وعوقبوا.
كما كان الفريق عزيز المصري، ذو الأصول الشركسية (1877 ـ 1956م) علامة بارزة في التاريخ السياسي والعسكري في النصف الأول من القرن العشرين، وكان له نشاط واسع من تركيا إلى بلاد الحجاز إلى العراق ثم ليبيا ومصر التي تولى فيها رئاسة أركان الجيش بعد اتفاقية سنة 1936.

إبان عهد الملك فاروق اعتبره جمال عبدالناصر والعديد من الضباط الأحرار أباهم الروحي، وعينوه سفيراً لمصر في موسكو عام 1953م. وتقاعد عن العمل العام سنة 1955م، و لمّا تزال سلالة عصر المماليك حيةً في نسيج الشعب المصري.